السبيل نحو المعرفة الربانية - 4
"وجعل لكم السمع"
|
*صادق الحسيني
نعمة العلم والمعرفة متاحة لكل انسان، كما سائر النعم الالهية، وعلى كل مسلم ان يكون معلم نفسه، بعد تحدي الضغوط الداخلية في نفسه والخارجية، وان يجعل اهتمامه وسمعه وبحثه وحركته، ثم تأمله وتعقله في مدرسة الخليقة الواسعة، يجعل من كل ذلك وسائل تزوده بالمعرفة والحكمة ؛ وبعد أن ذكرنا فيما سبق، إن (النظر) كخطوة اساس في تحصيل المعرفة، نتطرق في هذا القسم الى الوسيلة الاخرى لذلك و هو (السمع) قال تعالى: "و الله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع و الابصار" (النحل /78)
فالسمع لا يقل اهمية عن النظر حتى أنّه تقدم عليه في سياق الآية مما يوحي بأنّ الطفل في المراحل الاولى من النمو يستحصل المعرفة عن طريق السمع اكثر من اي شيء آخر.. و يذكر علماء النفس اليوم بأنّ الطفل يسمع كلام امّه و هو في بطنها و من ذلك يعرف لغته التي سيتكلمها غالباً عند الكبر ,والسمع عملية معقدة، فكل شيء يتحرك له صوتًا، ويتكون الصوت من اهتزازات لجزيئات الهواء التي تنتقل في موجات، ثم تدخل هذه الموجات إلى الأذن، حيث تتحول إلى إشارات عصبية ترسل إلى الدماغ الذي يقوم بدوره بترجمة هذه الموجات إلى أصوات، فعملية السمع هي بذاتها تستدعي التأمل و التفكّر فضلاً عن المسموعات التي نصل من خلالها الى المعارف.
وقد وردت كلمة السمع بمشتقاتها في القرآن الكريم مائة و خمس وثمانون مرة ,وعند دراسة موضوعية لهذه الآيات نلاحظ في الكثير منها ارتباط بين السمع و المعرفة ,و تحديداً معرفة الله وآياته. ذلك لأن آيات الله سبحانه تحيط بالانسان ويعيشها ويتفاعل معها كل حين، ولكن حجب الغفلة تغلف قلبه، فلا يكاد يستبصرها الا بالتذكرة بها والتنبيه عليها.
والسماع شرط الاستذكار والانتباه، فمن لايسمع نداء الرسل أنّى له الذكرى، ومن لايتذكر كيف ينتفع بايات الله المبصرات، وأنى له اختراق حجب الغفلة الكثيفة؟ قال تعالى: "فَاتَّقُوا اللـه مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (التغابن /16).
سماع عن سماع
يفرق القرآن الكريم بين سماع الأذن وبين سماع القلب، فالسماع العادي هي تلكم الكلمات التي ترد الى الأذن عبر الهواء كما أسلفنا، وهي الوسيلة التي قد تؤدي الى الاستجابة، ولكن ليس دائماً، إذ ان كفار قريش كانوا يسمعون آيات الله على لسان النبي الأعظم، وكذلك المنافقون في المدينة فقد كانوا يملؤون آذانهم باصوات التلاوة بل كانوا يقرأون القرآن ايضاً، والقرآن الكريم يدعونا الى النوع الثاني، فهنالك العديد من الآيات تتحدث عن السمع وهي بلهجة الأمر أو التنبيه والتحذير، قال تعالى: "وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ" (الجِن/13)، "إِنِّي ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ" (يس/25). "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها" (الاعراف /179)، وفي آية أخرى نجد السمع الذي ينزل الى القلب كالالهام، يُعد مقياساً لعباد الله الصالحين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" (الزمر 17-18)
و في هذا الصدد يُذكر قصتين لاعرابيين جاء كل منهما على حدة الى رسول الله (ص) احدهم آمن و الآخر لم يؤمن و الفرق بينهما أنّ الاول سمع فوعى ولكن الثاني اعرض ولم يسمع.
اما الاول فقد قرأ له له النبي الاكرم (ص) سورة العصر و حينما انتهى النبي من القراءة قال له الاعرابي يكفي هذا يا رسول الله ثم رجع الى اهله فقال النبي (ص): (إنّ هذا جاء اعرابياً وعاد فقيهاً)، اما الثاني فقد تلا له الرسول الاكرم (سورة الزلزلة) و قبل أن ينتهي النبي (ص) من القراءة استوقفه الاعرابي بعد أن ارتعد جسمه و لم يدع النبي يكمل السورة خشية أن يؤمن ورجع كافراً.
وهكذا فإنّ السماع و الاستماع قد يكون طريقاً للاستجابة وقد يكون مجرد كلمات يتلقاها دون أن يعي معانيها ومدلولاتها، وان كان حقاً طموحاً للمضي في طريق العلم والمعرفة الربانية عليه ان يفتح نوافذ قلبه لتلقي ما هو مفيد وبناء.
|
|