المقاييس العلمية و الوصول الى نور العلم
|
*كريم محمد
في مقال سابق ذكرنا أن العقل موهبة من الله تعالى الى الانسان قدمها له عبر القرآن الكريم، وهو نوعان؛ حكمة و علم، وبيّنا إن القرآن الكريم يتميّز عن باقي المناهج والأفكار الوضعية أنه يمهّد السبيل للانسان أن يكتشف عقله بذاته من خلال التذكير والتذكّر، فيكون إيمانه راسخاً عن قناعة تامّة لا تشوبها شائبة، بل يكون مطمئناً كل الاطمئنان على سلامة عقيدته ومنهجه في الحياة.
والى جانب الحكمة التي يحصل عليها الانسان من العقل، فانه يحصل أيضاً على العلم من خلال المنهج القرآني، وتتلخص نظرة القرآن الكريم الى ان للانسان مقاييس علمية، يستطيع بها معرفة الاشياء. هذه المقاييس غير مكتسبة، بل انها مواهب مقدرة رغم انها خاضعة لمشيئة الانسان كأية موهبة اخرى فيه، فالعين خاضعة لمشيئة الانسان ولكن في اصلها موهبة إليه. وقد يزيد العقل بالعمل إلاّ ان ذاته موهبة.
لكن ما الدليل على إن العقل موهبة وليس بمكتسب؟ هناك دلائل عدة تشير الى ذلك.
اولاً: الفطرة..
إن كل فرد منّا إذ علم بشيء يستطيع معرفة سبب علمه به، فمثلاً حين نعلم بوجود مكة المكرمة، نعرف ان علمنا بها آت من رؤيتنا او من اخبار احد بوجودها، ولما نفتش عن اصل معرفة المقاييس العقلية نجد اننا نعرفها بصورة ذاتية ودون ان يكون لمعرفتها سبب خارجي ابداً. فمثلاً حين نريد ان نعلل علمنا بامتناع التناقض فنقول: هل ان التناقض مستحيل لأننا رأيناه؟ أم لان شخصاً قال لنا ذلك؟ أم لان ادلة علمية قامت على امتناعه؟ لا نجد أي واحد من هذه الافتراضات صحيحاً، بل نجد ان طبيعة هذا الكشف لا تحتاج الى دليل من الخارج، او بتعبير آخر لا يرتاب إنسان في مقاييسه العقلية، ولا يحتاج في كشفها الى أية حجة خارجية، وهذا افضل برهان على انها ذاتية.
ثانياً: المقاييس العقلية..
لولا وجود المقاييس العقلية لانهار بناء العلم دفعة واحدة، إذ يعتمد العلم على تفسير الظاهرة بقاعدة عامة، فالعلم يقول: ان الضغط يولد الانفجار، ويكشف لنا عن اسباب انفجارات معينة بانها ضغوط قاسية.
حسناً؛ كيف استطعنا معرفة ان كل ضغط يولد الانفجار، ولم نلحظ إلا بعض اقسام الضغط وبعض افراده فقط؟ وكيف جزمنا بان هذا الانفجار تولد من الضغط؟ اليس لاننا حين شاهدنا الف ضغط وفي ظروف مختلفة سبب كل منها الانفجار، عرفنا بمقاييسنا العقلية ان اية ضغوط مشابهة لما شاهدنا تولد الانفجار ايضاً. ولولا هذه المقاييس اذاً لم نقدر على الجزم بسبب أي انفجار، بل لم نكن نعرف ان للانفجار سبباً ما إذ وجود السبب ذاته، خاضع لمقاييس العقل الذي يقول ان لكل شيء سبباً ونتيجة.
إذن؛ قوة ايماننا بمعارفنا تدعنا نؤمن بعقولنـا ايماناً قوياً لانهـا هي اصل كل معرفة لدينا.
ثالثاً: التصديق..
لولا هذه المقاييس العقلية، لم نستطع الايمان بصدق الاحساس، دعنا نفكر قليلاً؛ اننا نؤمن بصدق، ولابد ان يكون، فما وراء الاحساس ايضاً صحيح. اما لو نفينا ابصارنا فيما نرى، وهناك افتراض بكذب هذا الاحساس - كما يزعم فريق من الفلاسفة الذين يسمون بالمثاليين- فكيف يمكننا التثبت من صدق الاحساس وكذب هذا الافتراض؟ إنما المقاييس العقلية حجة قوية لذلك. فالاحساس في حقيقته عارض صدق هذه المقاييس فلا يمكننا الا ان ننفي ايضاً احاسيسنا جملة واحدة.
رابعاً: العقل يكشف عن الاشياء..
من طبيعة العقل الكشف والوضوح والاطمئنان والثبات في كل حال وزمان وعند كل احد وفي كل مكان، فمادام العقل يشاهد الاشياء فانه يباشر النفس بحقائق الامور مباشرة فعلية، عندئذ وجب ان تطمئن النفس الى وضوحها ولا ترتاب بها.
هذه الحقيقة تعطينا فرصة كافية لاختبار معلوماتنا عن طريق النظر اليها؛ هل تنطبق عليها صفات العلم الحقيقية التالية:
اولاً: الوضوح..
ما دامت الفكرة غير واضحة عند النفس يجب ان لا تنسب الى العلم، ولا يجوز لنا ان نتخيل وضوح شيء مادامت النفس هي بذاتها لم تستطع الجزم بها.
ثانياً: الاطمئنان..
ما دامت النفس لا تجد برد اليقين إزاء الفكرة، فلا يمكن ان تطلق عليها صفة العلم. ذلك ان على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً يجذب النفس الصافية فتطمئن اليها. قال اللـه سبحانه وهو يصف الضالين: "إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللـه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ" (سورة التوبة /45)، لذا كانت وصفتا التردد والفرطية متلازمتان للجهل ابداً.
ثالثاً: الثبات..
إذا كانت الشمس طالعة يوم كذا في بلد كذا، وعرفت ذلك بصورة واضحة، فلابد ان يعرفها كل فرد وفي كل مكان وفي كـل حال، امــا اذا كان بخلاف ذلك فلا يمكن ان يكون (علم) الجميع صحيحاً. من هذه النقطة تبدأ المقارنات العقلية التي تجريها النفس امام كل احساس لتميز الصحيح منه عن الباطل، فمثلاً يحسّ المريض بدوار فيرى الاشيـاء في حركـة، ولكنه سرعان مايقارن بين رؤيته وبين سائر الاحاسيس، فيقول: لو لم أكن مريضاً ولو كانت يدي ايضاً تلمس حركة الاشيـاء، إذاً كانت الحركة صحيحة، امـا الآن فلا، إذ العلم يجب ان يكون ثابتـاً بالنسبة الى كل احساس بل الى كل الاحاسيس.
وهكذا من يضع يديه في ماء فاتر بعد ان كانت احداهما في ماء حار، والثانية في ماء بارد فيحسس بالاولى ان الماء الفاتر بارد وبالثانية انه حار، وحينما يقارن بين اليدين ويعلم ان الماء الواحد لا يمكن ان يكون حاراً وبارداً في آن واحد، ويقارن الاحساس بالحالة السابقة يتوضح له انما الماء فاتر.
وكذلك ترى العين العصا بانكسار حينما توضع في الماء، ولكن حين يخرجها الانسان يراها معتدلة، او حينما تلمسها اليد يجدها مستقيمة، فيقارن العقل بمقاييسه بعض الاحاسيس ببعض ويحكم ان العصا مستقيمة وان العين هي القاصرة.
ولو تدبرنا قليلاً لوجدنا ان الإنسان لم يتوصل الى حضارته ولا الى أي كشف علمي بدون هذه المقارنات التي تعتمد على المقياس الفعلي الذي يكشف بسرعة زيف الاحساس عن صحته، فمثلاً وجد ابن الهيثم - وهو رياضي اسلامي قديم- تعليلاً لكسر الاشعاعات عندما تمر خلال وسيط مثل الهواء او الماء، واعتماداً على هذه الظواهر وتلك الحقائق استطاع ابن الهيثم معرفة ارتفاع الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الارضية وانها خمسة عشر كيلو متراً.
كيف استطاع ابن الهيثم معرفة الكثافة الحقيقية للـهواء المحيط بنا؟ ببساطة استطاع معرفتها بواسطة المقارنة بين انكسار شعاع الشمس في الهواء، وقال: لو كانت معرفتي بانكسار الاشعاع في انبوبة هواء صحيحة فلابد ان تكون صحيحة في فضاء هواء، إذ العلم من خصائصه الثبوت في كل مكان وكل زمان إذا كان الموضوع واحداً.
واننا قد نؤمن بفكرة و نزعم اننا نعلم بها حقاً، ولكن بمجرد ما نقيسها بما يماثلها في حجم الادلة القائمة عليها، او نتجرد عن الظروف الذاتية التي تحيط بهذه الفكرة، نراها تتبخر في الهواء، مما يدل على اهمية المقارنة بالمقاييس العقلية في كل جوانب حياتنا الخاصة.
والآن دعنا نفترض ان الإنسان لا يملك هذه المقاييس، فهل يستطيع ان يؤمن بشيء، بل هل يستطيع ان يتثبت من بعض احاسيسه بل كلها؟ باي شيء كان يهتدي الى ضرورة الاحساس والى صحته. والى مقارنته والى البحث عما يماثله ؟ هكذا يكون العقل.
|
|