الاسلام و آفاق العلم والمعرفة
|
*كريم الموسوي
لكي يسمو الانسان المؤمن ويرتفع الى مستوى وعي وإدراك القرآن الكريم وفهم الحياة التي ارادها ورسم خطوطها هذا الكتاب المجيد، لابد ان يعرف ان هناك آفاقا ثلاثة يتحرك في سموه من خلالها: أفق التاريخ وأفق الطبيعة، وأفق الانسانية.
أولاً: أفق التاريخ
وهو بمعنى ان على الانسان ان يغوص في رحاب الزمن المنقضي، ويلمس بوجدانه واحاسيسه تجارب الماضين، وان يستفيد وينتفع منها، فلا يقتصر على تجاربه الذاتية، وعدم الاقتصار هذا من شأنه ان يزيد اعتباره من السابقين، وهذه الميزة هي من الفوارق الرئيسة التي تفصل الانسان وتميزه عن اي كائن آخر، فالحيوان كائن غير ناطق، ولايملك لغة التفاهم لكي يوصل ويوضح تجاربه لنسله، فلو افترضنا ان الحيوان يستطيع اكتساب التجارب فانها سوف تنتهي وتضمحل بانتهاء واضمحلال هذا الحيوان. ولكن الامر عند الانسان يختلف تماما، فقد منّ الله تعالى عليه بالنطق، وقدرة الايضاح والبيان، ومن ثم فانه يتوارث التجارب المنتقلة الى الاجيال المتعاقبة عبر نافذة التاريخ.
وفي القرآن الكريم نلحظ ونلمس قيمة تلك التجارب والعبر التي ينقلها الى وجداننا هذا الكتاب السماوي الخالد، ولعل هذه التجارب والقصص والعبر احتلت ثلث هذا الكتاب الإلهي، ففيه نقرأ ونعيش تجارب الماضين ؛ قصص ابراهيم ونوح ومن قبلهما آدم (ع) ومن بعدهما موسى وعيسى (ع) والعشرات من الأمم وانبيائها وتجاربهم وصراعهم المرير في هذه الحياة.
ففي القرآن الكريم الكثير من الآيات المباركة التي تشير الى هذه الحقيقة، وتدور حول محورها، فتخاطبنا بأنواع الخطاب مرة بـ (يا بني آدم) واخرى بـ(يا ايها الناس) وثالثة بـ (يا ايها الذين آمنوا) وهكذا. فكل تلك الآيات وغيرها تتوارد في القرإن الكريم وملؤها توجيه وارشاد الانسان وافادته بالعبر من الامم الغابرة والعصور السالفة.
إن الامة التي تتغافل عن تاريخها، ولاتتفحص جذوره، ليست امة اصيلة، فالانسان الذي يعيش منعزلا دون ان يأوي الى كهف التاريخ فانه سيتهاوى ويضمحل، والانسان المؤمن الذي يطمح لان يضحي انسان رسالي يواصل الصعود على سلم التكامل، ويستهدف صنع الانتصار فوق ثرى هذه الارض، هو الذي يحيا ويعي آفاق التاريخ الشماء.
ثانياً: أفق الطبيعة
اما آفاق الطبيعة فنعني بها ان نعيش في هذه الطبيعة ونعايشها، فلابد للانسان من معايشة الارض وما فيها وما يدب عليها، فانت لست وحدك الذي تستفيد من شعاع الشمس، وتستضيء به، ولست وحدك تتمتع بنور القمر، وتهتدي بالنجوم، وتنال مما تنبته الارض مأكلا ومشربا وملبسا، فحولك تعيش المخلوقات الاخرى ويجب عليك ان تتكيف معها كي تحيا حياة طيبة.
وربما يدخل في نفسك شيء من الاندهاش والعجب حين اقول انه لابد لك من ان تكنّ الحب لكل تلك المخلوقات من النملة الصغيرة وحتى اغرب مخلوق لايخطر على ذهنك، فلابد من ان يعيش الانسان روح المحبة والود لكل مظاهر الطبيعة، ذلك لان الله تعالى هو الذي خلق وابدع ما في السماوات والارض، وجعل كل هذه الخلائق في خدمة الانسان الذي فضله الله عليها، فاضحت كلها مسخرة له.
وفي هذا المجال يقول الامام علي (ع) : (اعلموا انكم مسؤولون عن بقاع الارض)، فكل بقعة وطأتها رجلاك تأتي يوم القيامة لتكون شاهدة لك وعليك، وان على عاتقك مسؤولية تجاه هذه الارض، فكل ما في الحياة له قدر من الوعي والشعور.
ان الراسخ في اذهاننا ان الجماد لايفهم ولايشعر، فالصخور والجبال وربما حتى بعض الاحياء كالنبات، نعرف انها لاتفهم ولا تدرك شيئا من عالمها البسيط المحدود، ولكن الامر اعمق من ذلك بكثير، فكل هذه الجمادات تتمتع بنوع من الاحاسيس والإدراك غير الذي نعرفه، ولها نوع من الشعور لايمكن ان ندرك كنهه لأن عوالم وعيها غير التي عندنا، ولايمكننا ان نفقه تلك العوالم بتجاربنا واحاسيسنا مهما تطورت وتقدمت. يقول ربنا سبحانه: "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً" (الإسراء /44) فكل شيء اذن، له قدر من التوجه، وفي القرآن الكريم نرى في بعض اشعاعاته المباركة هذا المعنى، فهو تعالى يقول: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" (سبأ /10)، فهذه الرواسي كانت تردد مع داود (ع) تسبيحه، وهذا المعنى مالا تتقبله عقول اولئك الذين تعلموا العلوم السطحية في هذه الدنيا والذين لايؤمنون بما وراء الغيب، وانما يدركه اولئك الذين اوتوا الهدى والبصيرة.
ولقد كان رسول الله (ص) يجسد هذا المعنى في اقواله وافعاله الكريمة، فقد كان يعطي لكل حاجة من حاجاته اسما كفرسه، وبغلته، وثوبه، وعمامته، والحال بالنسبة كهذه الى ائمتنا (ع) فالامام زين العابدين (ع) كانت له ناقة حجّ واعتمر عليها طيلة عشرين عاما، فما افزعها يوما بصوت ولا ضربها.
وربما قد يتخذ البعض منا موقفا معاديا وكارها للاشياء، وهذا من تعاستهم وشقائهم، فهم يودون دمار الاشياء وفناءها، او انهم قد يسرفون في استهلاك بعض الحاجيات، ويتلفونها تبذيرا وبطرا واسرافا، في حين ان علينا - انطلاقا من المبدأ الذي ذكرناه - ان نضع لكل شيء قيمته وثمنه، وانه لمن حسن طباع الانسان وخاصة الانسان المؤمن احترام النعم، وتقدير الخيرات.
وعلى هذا لابد ان نتعامل ايجابيا مع الاشياء، ونتفاعل معها بمحبة وانسجام، فكل ما في هذه الطبيعة هو لخير ونفع ابن آدم، ففيها ما يبعث على معرفة الله تعالى ويعزز الايمان الذي فيه ذروة السعادة والاطمئنان.
وكثير من الاختراعات والابداعات يتوصل اليها من خلال دراسته لهذه الطبيعة، واستفادته من ظواهرها، فالطائرة- مثلا - اكتشف الانسان سرها من خلال الطير، و بالنسبة كهذا الى الكثير من الاكتشافات، وبيت العنكبوت الذي ضرب القرآن الكريم به مثلا في قوله: "وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت /41)، هذا البيت أبدعت فيه يد الخالق تعالى، فجعلته في احكم هندسة، ومن هذه الهندسة التي أوحاها الخالق تعالى لهذا المخلوق تعلم المهندسون والعلماء مد الاسلاك الكهربائية، واقامة ابراج الضغط العالي، فالانسان هو تلميذ الطبيعة وآفاقها.
ثالثاً: أفق الانسانية
الذين يتحركون ويعملون ويتنفسون ويشعرون يبلغ عددهم اليوم على وجه الارض أكثر من ستة آلاف مليون، انهم يشتركون في صفة الانسانية، فلايمكن لاي واحد منهم ان يحصر اهتماماته في ذاته او عائلته او حتى في اطار مجتمعه، فهذا الامتداد يجب ان يمتد الى كل أفق يحيا في نطاقه انسان، خصوصا اولئك الذين يعيشون هموم الحياة، ويعانون آلامها ومصاعبها الجمة، واعني بذلك المظلومين والمضطهدين والجياع في كل ناحية من نواحي هذه الارض المترامية، ثم ان لهؤلاء ايضا عقولهم ومداركهم وتجاربهم فيمكنك الافادة منهم انطلاقا من كونهم ابناء جنسك.
وهكذا لابد ان تعرف ما حولك، وتتصل بشتى المجتمعات، وتتابع اخبارها، فليس من الصحيح ان نتذرع في هذا المجال بأن اهتمامنا يجب ان يقتصر على بلدنا ومجتمعنا، بل يجب ان نتفاعل قدر استطاعتنا مع المجتمعات والامم الاخرى فضلاً عن مجتمعنا وامتنا. وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين (ع): (العارف بزمانه لاتهجم عليه النوائب)، ويريد الإمام بذلك انك تعيش ضمن حياة معينة، ولابد لك من ان تكتشفها، وان تعرف العصر الذي تعيش فيه، والانتفاع من تجاربه.
لقد شيدت الحضارة الاسلامية على أسس الوحي الإلهي الهابط من السماء نقياً صافياً، ومع ذلك يحث الرسول الأكرم محمد (ص) على طلب العلم والمعرفة والاعتبار من الغير، يقول (ص): (الحكمة ضالة المؤمن اينما وجدها التقطها). و(اطلب العلم ولو في الصين)، والانسان المسلم يمر اليوم بمرحلة حساسة في هذه الفترة الزمنية، فربما نكون غافلين عن احداث و وقائع تحدث في بلد من البلدان القريبة او البعيدة، وقد تقول: (وما شاننا بهذا البلد او ذاك...)؟! كلا. بل لك شأن بها، وهي تهمك، وترتبط بقضاياك المصيرية. فالحدث الذي يقع في أي موضع من العالم قد ترى تأثيره المباشر والسريع في الجهة الاخرى من الكرة الارضية، وذلك بفضل وسائل الاتصال السريع الذي وصل اليوم الى بيوتنا وغرفنا من خلال مئات القنوات الفضائية وآلاف المواقع على (الانترنت)، بل حتى اصبح الخبر السريع والمعلومة في جيوبنا بفضل الهاتف النقال. كل ذلك يُعد بالحقيقة سلاح ذو حدّين؛ فهو قد يزودنا بالمعلومات، لكن ربما يعرضنا لمخاطر الفساد الذهني والاجتماعي والتشويه، وإذن، فان المجتمعات الاسلامية مهددة بالآفات الثقافية والاخلاقية اذا لم يتم تدارك الأمر. فهل من الصحيح بعد كل ذلك، ان نلوذ بالصمت والركون الى الراحة والابتعاد عن الاحداث؟
إن خيار الحياد والابتعاد هو الذي أدى بشعوبنا اليوم لأن تدفع ثمناً غالياً بدماء شبابها في الشوارع وهي تسفك على يد حكام كانوا بالأمس القريب يعدون انفسهم القادة الملهمين والحكام المقتدرين، وخلال العقود الاربعة الماضية، لم يكن العالم الاسلامي ساكناً وصامتاً، بل حصلت ثورات وحروب وانتفاضات كما حصلت مجازر مريعة ضد شعوب، كما حصل في الانتفاضة الشعبانية في العراق عام 1991، وكان الاعلام آنذاك ينقل على حد امكاناته، كامل الصورة والخبر عن طريقة تعامل نظام صدام مع شعبه، لكن لم نشهد آنذاك أية ردود فعل من البلاد العربية والاسلامية على صعيد الجماهير والنخبة المثقفة، واليوم نشهد القمع والدموية في مصر وتونس وليبيا والبحرين وبلاد عربية أخرى التي نسخة مكررة لما فعله صدام مع الشعب العراقي قبل اكثر من عشرين عاماً.
|
|