قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

النهوض الجماهيري فرصة حضارية لأهل الحكم نحو الإصلاح والبناء
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / بشير عباس
إن بعث الله الرسل و الانبياء بشكل متواتر و متتابع الى البشرية، إنما كان تمهيداً للرسالة الكبرى الخاتمة وهي رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والتي جاءت "لتظهر على الدين كلّه" ولتطرح البشرية خارطة طريق لحياتهم والى الابد، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير بيديه هكذا ويجمع اصبعيه ويقول: (بُعثت والساعة كهاتين...)، بمعنى إن رسالته صلى الله عليه وآله مرادفة ليوم القيامة، فلا رسالة سماوية بعد رسالة الاسلام، وإذن؛ تجلّت الرحمة الإلهية في هذه الرسالة المحمدية الكبرى التي سوف تستمر الى يوم القيامة. من هنا نجد انه بين كل جيل وآخر تنتشر من مرقد النبي الاعظم في المدينة المنورة ومن مراقد اهل البيت وأولياء الله صلوات الله عليهم، وسائل الرحمة على البشرية فتنتشي النفوس وتتجلى الكرامة في الناس وتبدأ الحيوية، واذا بالملايين من البشر يتوجهون الى ربهم مرة واحدة في حركة تبدو انها جديدة ولكنها متجددة.
الثقلين. . إلهام الثورات
واذا سبرت التاريخ تجد انه كلما ضعفت الامة وخارت عزيمة أبنائها وسيطرت عليها عوامل السبات، فان هنالك إنبعاثة جديدة تظهر في داخل هذه الامة، وإذا بها كأن الرسالة قد تجددت بها وكأن الرسول قد بُعث فيهم للتوّ. بلى... ان الرسول لم يمض الى ربه ولم يرحل عن الدنيا إلا بعد ان ترك الثقلين في امته: كتاب الله وعترته، وهما الكفيلان بتجدد هذه الرسالة. فالكتاب يتلى ليل نهار رغم ان البعض يحاول ان يحجب معالم الكتاب من الامة ويحرّف المبادئ بطريقة او بأخرى، فهذا الكتاب السماوي المقدس افضل وأبلغ وأقدر على فرض نفسه لان الله يقول في كتابه: "انا نحن نزلنا الذكر واناله لحافظون"، والحفظ ليس فقط لحروفه، وانما للمعاني والدلالات. أما العترة الطاهرة فانها ما تزال تبث روح العطاء و روح الحرية و روح العبودية لله سبحانه وتعالى، وهذه العبودية بالحقيقة هي الحرية الكاملة التي تتحقق عبر التضحيات وعبر السيرة الوضيئة للأئمة عليهم السلام.
يعرف الجميع ان المسيرات المليونية الراجلة التي تزحف صوب مرقد الامام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، كيف ألهمت الجماهير في كل مكان من العالم روح الثورة...؟ إن الكلمة التي اطلقها سيد الشهداء عليه السلام في صحراء كربلاء: (إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما)، تحولت الى منهاج عمل للملايين من الاحرار في العالم، واذا بك تجد آثارها في تونس، ذلك الشعب الموالي للقرآن الكريم وأهل البيت، وفي مصر ايضاً ذلك الشعب الموالي للقرآن الكريم ولأهل البيت، واليوم نتابع الاحداث الدامية في ليبيا، كما نتابع الاحداث في البحرين، ان كلمات أهل البيت التي رسمت وكتبت بالدم وبالافعال وأُيدت بالتضحيات، تلقاها ابناء الامة الاسلامية بدورهم وحولوها الى مسيرة عمل، و تحولت الى خارطة طريق، لذا تجد أن احداث تونس اندلعت بعد ايام من ذكرى اربعين الامام الحسين عليه السلام، ومن ثم توالت الاحداث في البلاد الاسلامية الواحدة تلو الاخرى. وما نراه اليوم في الحقيقة ليس صدفة، وهناك بعض الناس يحاولون ان يفسروا الحوادث الكبرى بعامل (الصدفة)، كلا... ففي عالم التكوين لا مجال للصدفة، وأي ظاهرة لا بد ان نبحث عن اسبابها، فما هي الاسباب والعوامل التي أدت الى هذا الانبعاث الجماهيري الجديد؟ وما الذي يجعل العشرات بل مئات الآلاف من ابناء الأمة وفي اكثر من بلد وفي وقت واحد، يخرجون الى الشوارع وهم يهتفون مطالبين بحقوقهم، ولماذا يتجاوز الآلاف من ابناء البحرين حاجز الخوف واصبحوا ينادون بالكرامة؟ ولماذا لم يعبأوا بالتهديدات واستخدام الاسلحة الفتاكة؟ فما الذي حصل في مصر وفي تونس وفي اليمن وفي البحرين وفي ليبيا...؟
إنها تلك الروح الكبيرة التي بثها الوحي عبر القرآن الكريم وعبر أهل البيت عليهم السلام، هذين الثقلين، فتجددت روح الامة، لكن لا يعني هذا اننا نكتفي بتمجيد هذه الروح ونمجد هؤلاء الرجال والابطال الذين تجلّت فيهم هذه الروح بل علينا بضعة مسؤوليات ايضاً.
الرسالية وليس الانتماءات الوضعية
يوجهنا القرآن الكريم في (سورة الاحزاب): "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً" الأحزاب * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً"، (الاحزاب /45- 48)، والشاهد بمعنى القائد، ولم تكن قيادة النبي الأكرم للمجموعة التي كانت تسكن المدينة المنورة أو في الجزيرة العربية آنذاك، انما الشهادة أبدية، يقول تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"، فشهادة الرسول مستمرة على الامة، كما ان شهادة الامة الاسلامية الوسطى هي مستمرة على الامم الاخرى، وعليه فان بشارة النبي للأمة لا تكون مقتصرة على تلك المجموعة التي كانت حوله في صدر الاسلام، كما ان انذاره وتحذيراته أبدية ايضاً، وعندما يقول تعالى: "وداعياً الى الله"، فالمراد أن النبي القائد والشاهد محطم للأصنام، فهو ليس داعياً لعبودية ما دون الله تعالى من قبيل العصبيات القومية والعنصرية والحزبية، والمصالح الخاصة وايضاً المناصب الرئاسية، وغيرها من المسميات التي ما انزل الله بها من سلطان، فهي ليست في صف واحد مع الله. إن هتاف (الله أكبر) بمعنى ان الله هو الذي يُعبد ولا يُعبد شيءٌ سواه. إذن؛ حينما ياتي الرسول ويبشر الى الجنة، فانه بالحقيقة يبشر أولئك الذين يدعون الى الله لا لأنفسهم لا لأحزابهم لا الى قومياتهم ولا لعنصرياتهم، لأن الله سبحانه وتعالى أعز وأجل وأكرم وأعظم من ان يكون غيره دليل عليه، إنما هو الدليل على ذاته، واذا كان هنالك دليل عليه، فانه "بأذنه وسراجا منيرا"، والسراج هو مصباح الهدى لمن يريد ان يهتدي الى الحق.
"وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا"، بمعنى؛ اذا يواجه المؤمنون التحديات والمعاناة والصعوبات في هذه الدنيا، فانهم بالمقابل سيحظون عند الله بفضل كبير.
"ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم"... وهذا أمرٌ من السماء للرسول بان يتحدى الكافرين والمنافقين، وهم الذين يظهرون الكفر وكذلك الذين يستبطنونه ويحاولون ان يظهروا للمجتمع بمظهر الاسلام والايمان، فهؤلاء يجب الوقوف بوجوههم وتحدي ضغوطهم.
"وتوكل على الله"، ان الذي يواجه التحديات والصعوبات وايضاً يواجه وساوس شيطانية بان لا ينتصر، عليه ان يتوكل على الله لانه من يتوكل عليه سبحانه فهو حسبه، والله يحب المتوكلين عليه.
من هنا فان تجدد الاسلام وتجدد روح الايمان و روح القرآن الكريم، بالحقيقة يُعد نعمة كبرى وعظيمة، لذا نجد ان مواجهة الطغيان ومواجهة الظلم والتضحية من اجل الحق شهدت تجدداً في صفوف الامة. وهذا ما يضعنا أمام مسؤوليات وأدوار مهمة:
أولاً: الحذر من سرقة الثورات
مسؤولية اصحاب البصائر النيرة والاقلام الطاهرة التي لم تتلوث بخدمة الظالمين، أن يرسموا للناس طريق التحرك الرسالي، وان يوضحوا للناس الحقائق الربانية في الحياة، ويبينوا القرآن الكريم ومفاهيمه وتعاليمه، وكذلك ويبينوا سيرة النبي الأكرم واهل بيته عليهم السلام، وهذا هو الضمان من مغبة سرقة الثورات والجهود والدماء. إن هنالك اشخاصاص حاولوا الحصول على مكاسب سياسية من خلال وسائل سياسية فعجزوا عن ذلك، واليوم يحاولون تحقيق هذا الحلم من خلال استخدام الدين و دماء الشهداء، لذا على كل من يستطيع ان يقول الكلمة الصادقة، أن يقولها صراحة و بشكل واضح، صحيح ان من يقول الحق يتعرض للضغوطات، والحق مرٌ، ولكن الله سبحانه وتعالى سوف يبلّغ كلمته للآذان الواعية وللقلوب النيّرة وللنفوس الطاهرة، هذه الكلمة تصل بتوفيق وتسديد منه سبحانه وتعالى.
ثانياً: مسؤولية المسؤولين
ان هذا افضل خيار أمام المسؤولين وأهل السياسة بان يغتنموا فرصة تجرّد الشعب عن ذاتياته ودخوله في المضمار، ويرسموا خارطة طريق لهؤلاء ليؤدوا واجبهم ويبنوا بلادهم وبالننتيجة يحققوا اهدافهم.
فيما مضى من الزمن كان جميع السياسيين يحلمون بالثورة والنهوض الجماهيري، وها هو النهوض والتحرك الجماهيري على قدم وساق، فكما ان الناس يتنازلون عن ذاتياتهم وينزلون الى الشارع، على المسؤول الذي وصل الى المنصب – أنّا كان- ان يتنازل ايضاً عن ذاتياته، وهنالك الكثير من المسؤولين يبررون عدم قيامهم بالواجب بعدم تفاعل الناس واستجابتهم معهم، ويلقون بالائمة على الناس، واليوم لا تبرير لهم ولا عذر أمام عند الله تعالى وعند انفسهم. إن الجماهير نجحت في التحرك فلا يجب ان يتأخر المسؤولون في مطلب الاصلاح، ولا خيار أمامهم، إما ان يواجهوا هبّة الناس فيجرفوهم كما جرفوا السابقين وأطاحوا بهم...! وإما ان ينطووا على انفسهم مرة اخرى. فالشعوب غير مستعد للتضحية مرة اخرى، فهذا هو وقت الاصلاح والتجديد. وهذا ينطبق على الاوضاع في مصر وفي تونس، على المسؤولين ان ينهضوا بهذه البلاد ويحققوا اهداف الشعوب في الاستقلال والحرية وخلق الاقتصاد السليم.
ثالثاً: الحكومة وحكومة الشعب
على الجماهير اذا وجدوا نوعاً من الاستجابة من المسؤولين لتحقيق اهدافهم فليتعاملوا مع ذلك، فهذه فرصة لدور ما في الساحة الاقتصادية او السياسية. لا أن يقتنع الناس بكلام المسؤولين بالجلوس في البيوت ويقوموا هم باصلاح الماء والكهرباء والطرق... إن أي حكومة لا تتمكن من توفير كل الخدمات لمواطنيها من دون مشاركتهم، ومن دون التحام المسؤول مع الجماهير، وإلا فان هذا يُعد نوعاً من التكبر والغرور من قبل المسؤول بان يجد نفسه الجدير الأوحد والأقدر على تحقيق كل شيء وهو بالحقيقة عاجز عن أي شيء. أن وجود الفواصل بين المسؤولين وبين المواطنين لا يخدم المسؤولين ولايخدم الجمهور. منذ السنوات الاولى للتغيير أكدتّ على أن الارهاب في العراق لن يُقض عليه إلا بتحمل المسؤولية من قبل الجماهير، لذا يجب على الحكومة ان تتعاون مع الجمهور وعلى الجماهير ان يتعاونوا مع الحكومة لاقتلاع جذور الارهاب، وقد فعلوا ذلك بنسة معينة وكانت التجربة ناجحة، لكن بعض المسؤولين يصاب بالغرور لامتلاكه بعض الاسلحة وبعض الشباب الذين يعتقد انهم يفعلون المستحيل... كلا؛
إن الهجمات الارهابية في العراق والتي تستهدف المنشآت الحيوية والناس الابرياء هنا وهناك، كان بالامكان مواجهتها وتفاديها اذا كان هناك تعاون جدّي بين جمهورنا وبين المسؤولين، وهي مسؤولية مشتركة.
من هنا فان الدعوة موجهة للجمهور كما هي للمسؤولين ايضاً بان كونوا يداً واحدة لتحقيق المطالب الحقّة، سواءً في الدفاع عن انفسكم وفي مواجهة الارهاب وفي مواجهة الاعداء الخارجيين او لبناء الوطن، وأي كلمة أخرى تحاول ان تفرق بين المسؤولين وبين الجمهور سوف تسبب لنا أذىً كثيراً، بل خطرا كبيراً لأننا مسلمون وأمة واحدة، والأمة بمعنى لا فرق بين صغيرها وكبيرها، بين المسؤول وبين الرعية، كلهم يد واحدة وهذه الكلمة هتف بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: (المسلمون تتكافأ دماءهم ويدهم على من سواهم ويسعى بذمتهم ادناهم...). هذه الروح يجب ان تتجلى اليوم في بلاد المسلمين.
ان من يقرأ المستقبل قراءة دقيقة يسلم من الأذى، والذي يستطيع ان يعرف زمانه لا تهجم عليه اللوابس، ومع الاسف كثير من المسؤولين يجلسون في غرف مغلقة وبعضهم يوحي الى بعضهم زخرف القول ولا ينتبهون لما يحدث حولهم لأنهم يعيشون مع التقارير. بينما عليهم النزول الى الشارع، فالجماهير لا تأتي من خلال المناصب، بل ان هذا المنصب هو مصدر القلق والاضطراب الدائم والتوترات والكوابيس الليلية وبالنهاية لا شيء وقد قرأت في التاريخ الكثير من الملوك ومن رؤساء الجمهور ومن المتشبثين بالكراسي، ان ايامهم الاخيرة كانت الأتعس في حياتهم، حتى ماتوا وكأن شيئاً لم يكن.