التفكير السليم طريق الابداع والتغيير
|
*أنور عزّ الدين
التفكير المتعمّق والواعي يفتح ابواباً جديدة على مصراعيها امام الانسان ليكتشف في حياته آفاقا واسعة لم يكن يحلم بها ابداً، وليتمتع باشياء لا تنتهي في حياته الدنيا، واخرى سينعم بها في حياة الاخرة.
والناس في هذا المجال على نمطين؛ نمط يفكر، ونمط يقلد. و هناك نمط آخر يمزج بين هذين النمطين من التفكير، فهو يفكر في جوانب، و يقلد في جوانب أخرى، ومع ذلك فاننا نلحق هذا النوع من الناس بالمقلدين، ونعدّهم كالذين لا يكلفون انفسهم عناء التفكير والابداع.
ومن المعلوم ان الفرق كبير بين هذين النوعين من البشر؛ فالنوع الأول: يفكر ويبدع ويخترع ويرى الاشياء والحقائق بعينه. والنوع الثاني: يقلد ويتبع وينتظر الآخرين لكي يوجهوه ويقودوه وكأنه اعمى لا يهتدي الى سبيل من تلقاء نفسه.
وهكذا فاننا نرى ان الفرق كبير الى درجة اننا لانستطيع ان نقول ان النوع الاول: عالم و النوع الثاني: جاهل، وإنما لأجل ان نصور الفرق الشاسع بينهما علينا ان نقول ان الفرق بينهما كالفرق بين الحياة و الموت! فالنوع الاول: حيّ، و الثاني: ميّت، والقيمة في الحياة هي الاكتشاف و العلم والابداع والتفكير. فالذي لايفكر لايمكن ان يكتشف ويبدع، و من ثم فانه سوف لايترك أي تأثير على الحياة.
والآن علينا ان نطرح على انفسنا الاسئلة المهمة الاتية: كيف نفكر؟ وماهي العقبات التي تعترض طريق التفكير؟ وماهي الوسائل والاساليب التي تساعد الانسان على تكامل التفكير ؟
السبيل الى التفكير الصحيح
قبل كل شيء لابد ان نثق بأفكارنا... على سبيل المثال، الطفل لايمكنه ان يفكر بشكل مستقل لانه ضعيف وتابع لاسرته. وحتى لو استطاع التفكير، وتوصل فكره الى نتيجة معينة فانه لايستطيع ان يفرض هذه النتيجة على مجتمعه الخاص في البيت، وفي الوسط الذي يعيش فيه لانه مغلوب على أمره. وكذلك الحال بالنسبة الى المجتمع المستعمر المحروم من وسائل الحرية والكرامة، فانه لا يستطيع التفكير. فنحن لا نجد في التاريخ ان مجتمعاً مضطهداً مستعبداً استطاع ان يصل بفكره الى نتيجة، وحتى لو افترضنا ان هذا المجتمع قد فكر وخطط وابدع ووضع البرامج وكانت برامجه هذه من افضل البرامج، ولكن هل يستطيع ان يطبق هذه البرامج ؟
ان الانسان لايفكر إلاّ إذا عرف ان وراء تفكيره نتيجة، ومن هنا فان الثقة بالنفس وبالمستقبل، والايمان بالحرية والكرامة، والاستعداد للتضحية من اجلهما، انما هي شروط مسبقة للتفكير. وفي اليوم الذي نكتشف فيه اننا واثقون من انفسنا ومن القدرات الهائلة التي وهبها الله تعالى لنا، ومن اننا مستعدون للتضحية من اجل الفكرة التي نؤمن انها فكرة حقة، حينئذٍ سوف يكون بإمكاننا التفكير والوصول الى شواطئ الابداع والاكتشاف والفهم الصحيح للحياة والتمتع الصحيح بها. لكن كيف نستطيع ان نخلق هذه الثقة؟ ومن الذي يقول اننا مفكرون وقادرون على الابداع، في وقت نعجز حتى عن صنع مصباح كهربائي أو برّاد للماء وغيرها من الاجهزة البسيطة الضرورية لحياتنا، ونضطر اليوم لأن نستورد كل ما نحتاجه من الخارج؟ ان السبب في ذلك هو عدم قدرتنا على ممارسة التفكير.
ان اوضاعنا في هذا المجال مزرية ومتردية الى درجة اننا عندما نحصل على رخصة قيادة السيارة فكأنما حصلنا على شهادة الدكتوراه في علم الذرة!! في حين انها ليست إلا دليل على القدرة لاستخدام الآلة التي اخترعها الآخرون، والذين يحاولون جهد امكانهم تكريس حالة الجهل والتخلف والاتكالية فينا من خلال الاعلان عن صنع سيارات او آلات اخرى سهلة الاستعمال؛ اي انها مصنوعة خصيصا للمجتمعات المتخلفة التي لا تعرف التفكير. لكن في نفس الوقت علينا ان نعرف أن الله تعالى خلق الناس أطواراً ولم يخلقهم طبقات، فليس لهذا فضل على ذاك، تقول الآية الكريمة: "وكلٌ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا" (الاسراء /20). يبقى على الانسان ان يثق بنفسه ليكون على طريق التفكير الصحيح وليكون أمام أفاق الابداع الواسعة.
في طريق التفكير
من الواضح ان التفكير لا يأتي من فراغ ولا يكون الى فراغ قطعاً، فلابد له مصدر ومصبّ، ومصدر التفكير المطالعة ومصبّه الانتاج والتأليف، لكن ما نشهده اليوم هو ظاهرة العزوف عن المطالعة وعن المكتبات، في حين بلغت المطالعة في العصر الحديث درجة من الاهمية والضرورة بحيث اننا نستطيع ان نقول ان الذين لا يمارسونها في عصرنا الراهن عليهم ان لايعيشوا، وان يحسبوا انفسهم في عداد الاموات. فعصرنا هذا هو عصر العلم والمعلومات، والعلم لا يمكن ان يعرف إلا من خلال القراءة والمطالعة. وعندما لا يقرأ الانسان فانه سيجهل كل شيء، وللاسف فاننا نشتري الكتب بالاثمان المرتفعة ولكننا لانعمد الى مطالعتها، بل نجعلها زينة وديكوراً لبيوتنا ومجالسنا!
وبناء على ذلك لابد من برامج للمطالعة، وأن تكون من النوع المكثف، وقد يدّعي البعض بانه يمتلك الكتب ويطالع ولكنه في الحقيقة لايقرأ، أي انه لا يعطي القراءة حقها، والدليل على ذلك قلة ما قرأناه في حياتنا لحد الآن، وحتى لو قرأنا العشرات من الكتب فان هذا العدد يعدّ ضئيلا بالقياس الى اهمية المطالعة وكثرة وغزارة ما يصدر من الكتب في عصرنا الراهن. فنحن علينا ان نقرأ المئات بل الآلاف من الكتب، وهذه هي المطالعة الحقيقية.
ومن زار البلاد الغربية سواء في اوربا أم امريكا الشمالية أم اليابان، رأى كيف ان الناس هناك وعلى تعدد توجهاتهم ومستوياتهم يقبلون على الكتب والكراسات، فهي بين أيديهم سواء كانوا في موقف للباص ام داخل الحافلة ام في الحديقة ام في المنزل ام في اي مكان آخر، وما ان يجدوا ثمة فرصة وفسحة زمنية يخرجون الكتاب من جيوبهم ويبدأون بالمطالعة، ولا يبذرون الوقت بالاحاديث التافهة والجدال العقيم والنقاش حول امور لا علاقة لهم بها.
ومما نجده في طريقنا نحو التفكير السليم هو الحوار وتبادل الآراء مع الآخرين. انه يمثل مفردة اساس في حياتنا، والحقيقة يجب ان نضحي بالكثير من المفردات الأخرى في سبيل تحقيقها، والحوار يعني القدرة على ان نكتسب علوم الآخرين ومعلوماتهم وما توصلوا اليه لنضيفها الى علومنا، ونصنع من خلال ذلك تركيبة علمية متكاملة، وهذه القدرة هي من الامور الرئيسة التي يجب ان نكتسبها في حياتنا.
ان البعض من الناس لهم آرائهم الخاصة، ونراهم يتصلبون عليها، و يتشبثون بها وكأنها منزلة من السماء، بينما المنطق السليم يدعو الى تبادل الآراء وتقصّي الأحسن والأصوب، ولنا في حديث النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله خير دليل على ذلك حيث يقول: (الحكمة ضالة المؤمن، خذ الحكمة ولو من كلب)، وفي رواية أخرى (ولو من كافر)، والحديث الآخر: (اطلبوا العلم ولو في الصين)، وهذا يدلنا على ان الانسان المسلم عليه تقصّي الحقيقة وطلب العلم والمعرفة أينما كانت، وفي هذا السياق يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (انظر الى ما قال ولا تنظر الى من قال).
إن الاسلام والسيرة المضيئة للمعصومين تدعونا اليوم بأن نحافظ على توازننا في مسألة افكار وآراء الآخرين، فلا نكون متصلبين ومصرين على الخطأ، ولا نكون في الوقت نفسه مجرد جهاز استقبال، لافكار الآخرين، إنما المطلوب هو الاستماع الواعي؛ اي ان ننتبه الى الآراء والى جميع العناصر المكونة لها، ثم نُمعن النظر كثيراً في هذه الآراء لكي يتسنى لنا فرز العناصر الخبيثة من العناصر الطيبة، ثم نقوم بعد ذلك بعملية المزاوجة بين العناصر الطيبة البناءة من خلال تبسيط وتجزئة الافكار ونبذ الباطلة جانبا، والأخذ بالصحيحة، والى هذا المعنى يشير قوله عز وجل : "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" (الزمر /18).
هذه القاعدة التي جاء بها القرآن الكريم على يد الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله قبل اربعة عشر قرناً، توصل اليها الفيلسوف والعالم الغربي (ديكارت) الذي يُعد مفجر الحضارة الحديثة، فكان من أهم ما جاء به، منطقه الذي لايزال يدرّس الى الآن في جامعات اوروبا، هو ان العلم الحقيقي المفيد انما يكتسب من خلال الانفتاح على افكار وآراء الآخرين، و الأخذ بها ان كانت ايجابية وبناءة؛ اي من خـلال فتـح الحوار البنّاء مع الآخرين، وتبادل وجهات النظر معهم.
إذن؛ المنفعة الأولى التي يكتسبها الانسان من الآخرين هي عقد الحوار معهم ومعرفة طريقة هذا الحوار، ونحن سواء كنا طلاب علم أم منتمين الى أية شريحة اجتماعية اخرى، ان نهتم بتنمية قدرة الحوار في انفسنا، وان نطبق برنامج الحوار المتكامل بأن يطرح كل واحد منا فكرة معينة لنقوم بصقلها ومناقشتها لكي تتحول الى بند من بنود العمل الرسالي. وعلينا في هذا المجال ان نحرص على ان تسود حواراتنا، الايجابية والهدوء والتفاهم المتبادل لنخرج بنتائج ايجابية بناءة.
|
|