قراءة.. (شريعة الوقف)
وبعضُ الحبس مفتاحُ خير
|
*د. نضير الخزرجي
مهما شرَّق المرء أو غرَّب، ومهما اغتنى أو افتقر فإن التربة منتهى مستقره المؤقت حيث جاء منها، وفيها يتساوى الجميع فلا حسيب ولا نسيب، ولا عبد ولا حر، ولا رئيس ولا مرؤوس، ولا إمام ولا مأموم، الكل في حساب الأرض سواء، ومن يمشي بين القبور ويقرأ الأسماء تتجلى عنده هذه الحقيقة التي يتغافل عنها البعض وهو إليها صائر طال عمره أو قصر. فالكلُّ صائر إلى حتفه، وبين صائر وصائر فسحة من الخير العاجل المستمر، الممتد أثره في زمن الأرض والمتنعم به من يمشي على وجهها إلى ما شاء الله، ذلك هو (الوقف) أو بتعبير الفقه (حبس العين وإسبال المنفعة). فالوقف من حيث اللغة: السكون وعدم الحركة، ومن حيث الإصطلاح: إخراج الشيء من مِلك الواقف المالك إلى مِلك خاص أو عام، أي حبس العين ووقفها للمنفعة العامة والخاصة. وفالوقف هو الخير العميم الذي يأتي بالصالح لمن يرقد تحت الأرض ينتظر عالم النشور ويغدق بالخير على المستفيد من الوقف الخيري وهم كثيرون من جيل لآخر ويتمددون أفقياً زماناً ومكاناً، ومن هنا ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): (ستة تلحق المؤمن بعد موته: ولدٌ يُستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرسٌ يغرسه، وقليب - بئر- يحفره، وصدقةٌ يجريها، وسُنَّةٌ يؤخذ بها من بعده) (الوسائل: 19/173).
ولأن الوقف الخيري فيه منافع كثيرة للأحياء والأموات، فقد تناوله الفقهاء بالتفصيل وأكدوا عليه لخير الأمة وصالحها، ومن هنا يأتي كُتيب (شريعة الوقف) ضمن سلسلة الشرائع من ألف عنوان للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي صدر حديثا -2011م- عن بيت العلم للنابهين ببيروت في 56 صفحة من القطع الصغير، قدّم وعلَّق عليه الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
الحبس الحضاري
لا أحد يحب الوقف بمعناه اللغوي ولا أحد يحب الحبس بمعناه الاصطلاحي، فهي من المفردات التي تبعث على الإشمئزاز، فالبركة في الحركة والحركة مجلبة للمنفعة، لكن الحبس في الأمور الخيرية هي البركة بعينها وهي الحركة الدائمية المنتجة، لأن الوقف هنا هو بمثابة تشغيل رأس المال في المشاريع الإنتاجية والحفاظ عليه والاستفادة من أرباحه فقط، ولمَّا كان رأس المال هي أملاك غير منقولة، فإن ثمنها يرتفع مع مرور الزمن وبالتالي تتحقق الفائدة من منافعها بشكل مستمر وتصاعدي، وهذا هو السر في تشريع الوقف بوصفه تشريعا حضاريا منتجاً خادما للأمة والمجتمع ما دام الوقف قائما، بل أنه يشبه إلى حد بعيد السدود المائية، فهي في ظاهرها مانعة للمياه من الحركة وحابسة لها، ولكنها في واقعها حافظة لمياه الأمطار والأنهار من الهدر ومغذية لمياه السقي والشرب فضلا عن الطاقة المائية والكهربائية، فالفوائد جمّة بخاصة إذا كانت منافع الموقوفات متوزعة في مشاريع كثيرة ومتنوعة تدخل مختلف مناحي الحياة ومشاربها.
والوقف صورة من صور الإحسان على خلاف الزكاة التي هي نوع من أنواع الضريبة في المفهوم الحديث، فالأولى تقدم بصدر منشرح والثانية يقدمها البعض كأنّه يصعَّد إلى السماء!، كما أن الديمومة من شروط الوقف إذ: (يشترط في الوقف أن يكون على نحو الدوام، فلا يصح أن يكون لفترة محددة وعليه لا يصح وقفا بل جاز صدقةً أو إسبالاً)، في حين أن الزكاة يتحقق استحصالها أو تقديمها في عام وتقل أو تنعدم في عام آخر وربما ازدادت ولكنها بالقطع ليست دائمة، ومثلها الصدقة المنقطعة.
ولا يخفى أن الوقف هو (وجه من وجوه الضمان الإجتماعي بل والعمل الوطني) كما يؤكد الفقيه الكرباسي، فالأوقاف ذات تأثير مباشر على الموقف عليه ولهذا التأثير امتدادات أفقية وعمودية، وقد خضعت هي الأخرى لتأثيرات السياسة اليومية، بل أنها دخلت في الصراع السياسي والعسكري، ومثال ذلك كما يشير الفقيه الكرباسي، الثورة الجزائرية بالضد من الإستعمار الفرنسي حيث: (قامت مقاومة الجزائريين ضد المحتلين من واردات الأوقاف المستثمرة، حيث كانت إلى درجة كبيرة بحيث كانت تؤمِّن السلاح والعتاد كما وتؤهل المجاهدين، ومن هنا جاء القضاء على هذه الأوقاف والاستيلاء عليها حتى لا تكون بيد المجتمع المسلم قوة تمكِّنه من الوقوف أمام مخططات الأجنبي)، ومن هنا تأتي محاولات بعض الحكومات الإسئثار بالأوقاف ومنافعها أو السيطرة عليها وإسبال منافعها وصرفها في موارد لم ينص عليها واقفها.
عالمية الوقف
ما إن طرقت أسماعنا كلمات من قبيل: (الوقف) أو (الأوقاف) أو (الوقف الخيري) وأمثالها حتى تبادرت إلى الذهن كلمات من قبيل: (المسجد)، (الجامع)، (الحسينية) وأمثالها، مما يعطي الانطباع العام للوهلة الأولى أن الوقف منحصر بالمراكز الدينية، وربما كان هذا التصور هو السائد لقرون طويلة يوم كان المسجد يمثل مركز القيادة بمسمياتها المختلفة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن مع تطور الحياة المدنية، فإن من الطبيعي أن تنشأ مراكز متنوعة لها علاقة مباشرة بحياة المجتمع مع احتفاظ المسجد بقيمومته كمنبر ديني وسياسي له قدرة توجيه الناس من خلال منابر صلاة الجمعة وفي المناسبات المختلفة كالعيدين.
لكن الوقف الخيري له مصاديق عديدة ومتنوعة تدخل في كل تفاصيل المجتمع وشؤونه، فهو كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (عمل حضاري يؤدي دورا فاعلاً في تلبية حاجات الشعوب ويكون الملجأ الأنسب لها في المضي قدماً لتطوير مجتمعاتنا والاستفادة من السبل المتاحة لأجل ذلك، سواء في الحقل العبادي أو الثقافي أو التعليمي أو غيرها من السبل التي تقوم عليها حضارة كل أمة وشريحة من شرائحها)، فالوقف لا يقتصر على الجامع أو المسجد أو الحسينية، بل لا ينبغي التوقف على ذلك، فكل ما ينفع الناس في حاضرهم ومستقبلهم فمن الصالح الوقف له، فما يتمناه الواقف من أجر في حياته أو في مماته يأتيه من غير الحصر بالمسميات السابقة، فمن الجميل أن يوقف إلى جانب الجامع: مدرسة وجامعة وهيئة ثقافية ومؤسسة بحثية ومركزاً صحيًّا وهيئة إجتماعية ومنشئة إنسانية، ودار طباعة ونشر، وكل ما يخدم المجتمع ولا ينصرف إلى المراكز العبادية فقط، لأن صلاح المجتمع وخيره هو قمة العبادة، فالصلاة عبادة فردية وخدمة المجتمع عبادة جماعية، ولذلك يرى الفقيه الكرباسي أنه: (يصح الوقف على المصالح العامة كالجسور والطرق والمساجد والمراقد وهو في الواقع وقف لصالح المسلمين) بل ويزيد الفقيه الغديري في تعليقه: (بل الحق أنه وقف لعموم الناس، ومنهم المسلمون) فالمنفعة تصيب غير المسلم أيضا الذي يعيش بين أظهر المسلمين.
ويلاحظ أن المجتمع الإسلامي في العصور الأولى كان سريع التطور في العلوم المختلفة وكان سباقا فيها، وربما يرجع في أحد عوامل قوته إلى تعامله الإيجابي المتنوع مع الوقف الخيري، فكان الواقفون إلى جانب المساجد والجوامع يسبلون المنافع على المنشآت الأخرى كالمدارس والجامعات والمبرّات والمستشفيات، بل أن الأذكياء من الواقفين كما يشير الفقيه الكرباسي: (كانوا لا يكتفون بوقف العيِّنة أو المؤسسة التي هي حاجة ملحَّة للشعوب بل يشفعونه بوقف سلسلة من العقارات لأجل الإستثمار في دعم تلك المؤسسة كي لا تبقى عائمة، وفي ذلك ضمانة لاستمرارية المشروع وتشغيل لمجموعة من اليد العاملة ودفع للحركة الاقتصادية)، وقد وقفت على نص بخط اليد لوصية جدي لأبي الحاج علي بن عبد الحميد بن عمران البغدادي الخزرجي (1857- 1909م) مؤرخة في 4 محرم عام 1327هـ (1909م)، إذ وجدت أن ثلث أملاكه في بغداد وكربلاء، منها 620 حصة (سهما) بقيمة 6200 ليرة من بين ستة آلاف سهم هي مجموع أسهم سكة الحديد التي أسسها الوالي العثماني مدحت باشا (1822- 1884م) والتي كانت قائمة بين بغداد والكاظمية (الترامواي- الگاري) في الفترة (1869-1946م)، كان قد أوقف منافعها في موارد عبادية وإجتماعية، من قبيل تزويج الطلبة، القيام بجنائز أموات الفقراء، ختان الفقراء من الأطفال، الإطعام في شهر رمضان، سقاية الماء على مدار العام، رد المظالم للفقراء، الصرف على الفقراء من زوار العتبات المقدسة، والصرف على فقراء الأسرة وغيرها، فهذه عيِّنة من موارد الأوقاف وصرفها وهي قائمة حتى يومنا هذا رغم مرون أكثر من قرن على رحيل واقفها المدفون في رواق الإمام الحسين(ع) من جهة الرجل، تعطي الدلالة الكاملة أن الوقفَ نهرٌ خيره عميم مستمر.
فالوقف وإن كان في ظاهره استقطاعاً لمُلك المالك في حياته ليس للورثة من حقٍّ في عينه، ولكنه في واقع الحال انتشال للأمة يقيها من أمراض كثيرة إجتماعية ومادية ويدفع عنها عوارض الفقر، ويحصّنها سياسيا واقتصاديا، وإذا ما تكاثرت المنافع وتوزعت على مشارب عدة استطاعت الأمة أن تستعيد مجدها وتنتعش في الكثير من مناحي الحياة، وتتوسع مديَّات الاستفادة مدينياً ومدنياً وحضارياً.
*باحث وجامعي عراقي- لندن
|
|