في ذكرى ولادته العطرة..
الإمام الباقر (عليه السلام) .. ينبوع العلم ومدرسة الاجيال
|
*حيدر حسين
معروف ان الائمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام يشكلون صورة متكاملة وامتداداً واحداً للرسالة المحمدية، إلا ان الظروف السياسية والاجتماعية من قبيل تعاقب الحكام والانظمة السياسية والتيارات الفكرية، أوجدت هنالك أدوار متعددة للأئمة الاطهار بما تتوافق و متطلبات الزمن والحاجة إليه. فالحركة الاصلاحية في جانبها الروحي التي قادها الامام السجاد عليه السلام خلال سنوات إمامته المباركة، حملت الى الأمة رسالة الدعاء والمناجاة وتهذيب النفس من خلال العروج الى الله تعالى، لتزويد الامة بطاقة روحية وفكرية واخلاقية رائدة فضلاً عن تكثيف ولائها لأهل البيت عليهم السلام، وهو ما خرّج كوكبة من رجال العلم والمعرفة وحملة التشريع الالهي الصحيح.
وبعد استشهاد الامام السجاد عليه السلام، نهض الامام الباقر عليه السلام بمهمام الامامة والقيادة بناءً على العهد الالهي، فقد حمل الامام عليه السلام مشعل الامامة وهو يحمل طابع العلم والمعرفة، لذا لُقب بـ (الباقر) لأنه بقر العلم بقراً، أي انه فجّر في فترة حياته الشريفة ينبوع العلوم المحمدية وذلك خلال تسع عشرة سنة من عمر امامته.
انه الامام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام المولود لابوين علويين، فأمه فاطمة بنت الامام الحسن المجتبى، وابوه زين العابدين عليهما السلام، في الاول من شهر رجب الأصب سنة 57 للهجرة النبوية الشريفة.
الباقر (ع) في أحاديث جده المصطفى(ص)
دخل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري يوماً الى بيت زين العابدين عليه السلام فوجد الإمام الباقر عليه السلام وهو لا يزال طفلا يافعاً فالتفت الى الامام السجاد عليه السلام يسأله عمن يكون الطفل؟ فقال عليه السلام: (إنّه ابني وهو الإمام من بعدي محمد الباقر). فقام جابر وقبل قدميه وقال: فداك نفسي يا ابن رسول الله... تقبل سلام وتحيات أبيك رسول الله، فانه بعث اليك بسلامه. فقال الامام زين العابدين وكيف ذلك؟ قال جابر: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وقد كنت جالساً عنده: (يا جابر ستعيش حتى تدرك ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فاذا كان ذلك فأبلغه سلامي).
فامتلأت عينا الإمام الباقر عليه السلام بالدموع وقال: (السلام على أبي رسول الله مادامت السماوات والارض وعليك يا جابر بما ابلغتني سلامه).
ان طبيعة الاجواء السياسية في عهد الامام الباقر عليه السلام كانت تتسم بالهدوء الى حدٍ ما، و لو تتبعنا تلك الفترة التاريخية لوجدنا ان حوالي ثلثي فترة إمامته عليه السلام قد شهدت تراجع حالات القمع والاضطهاد الاموي بحق أهل البيت عليهم السلام، إبتداءً من أواخر حكم الوليد بن عبد الملك وحتى السنوات الاولى من حكم شقيقه هشام، وذلك بسبب انشغالهم باللهو والمجون والبذخ الى جانب التصفيات السياسية في البيت الاموي. وجاء عهد الحاكم الاموي المتميّز بشخصيته وسياسته عمر بن عبد العزيز ليعزز من مكانة أهل البيت عليهم ا لسلام في المجتمع ويفسح المجال اكثر لمسيرة الرسالة، فقد عُرف هذا الحاكم بانصافه حق أهل البيت عليهم السلام في مقدمتها إعادة (فدك) وحظر سبّ أمير المؤمنين على المنابر، وههو ما ساعد على توافد اعداد كبيرة من المؤمنين على مدرسة الامام الباقر لينهلوا من العلوم المحمدية ويتحولوا الى كوادر رسالية واعية وحملة علم ومسؤولية.
استقطبت مدرسة الامام الباقر عليه السلام طلاب العلم فشُدت إليها الرحال من جميع أطراف البلاد الاسلامية المترامية، فكان هنالك تلامذة ومحاورين وطالبي علم، كما قصده أغلب رجالات الفكر من معتزلة ومتصوفة وخوارج وسواهم للمناظرة، ولا ننسى مناسبة الحج بانها كانت فرصة ذهبية ونعمة للمسلمين عامة ليكونوا على مقربة من ينبوع العلم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان الحجيج يؤدون مناسك الحج كل عام ثم يعرجون على مدرسة الامام الباقر عليه السلام في مدينة جده المصطفى صلى الله عليه وآله لتلقي العلوم بشتى صنوفها وفروعها ، ونقل الدين الصحيح الخالي من التحريف والشوائب الى بلدانهم. وكان للامام الباقر عليه السلام محاورات ومناظرات وأجوبة لشتى انواع المسائل العقائدية والشرعية والاخلاقية وغير ذلك كثير. ولم تقتصر المدرسة على طبقة معينة دون أخرى فالكل متساوون في طلب العلم والفضيلة في مدرسة الامام الباقر عليه السلام.
وقد لازم الإمام الباقر عليه السلام طلاب علم تحولوا الى نجوم في سماء العلم والتقوى والفضيلة، من هؤلاءِ: جابر بن عبد الله الانصاري و زرارة بن أعين وغيرهما من الملتزمين بخط الرسالة المحمدية ونهج أهل البيت عليهم السلام. الى جانب من نهل من هذا الينبوع العظيم رجال من امثال: عمر بن دينار الجمحي و محمد أدريس الشافعي و ابو حنيفة وغيرهم.
ان تدفق هذا الينبوع الصافي والعظيم من شأنه ان يغذي رافد الحضارة الاسلامية فتكون الصورة الناصعة للاسلام الذي اراده النبي الاكرم وتكون على لسان الأئمة من ولده الكرام، وهذا ما يخشاه الحكام سواءً الامويون منهم والعباسيون بل وحتى يومنا هذا، فالخطر يتمثل امام طلاب السلطة والهيمنة عندما يكون هنالك منهج ونظام آخر تلجأ اليه الامة، حينئذ لن يكون لوجود الحاكم الظالم والمستبد أية ضرورة ومبرر لوجوده في كرسي الحكم، وإذن؛ لابد من ايقاف هذا الرافد حتى وان سبب الخسارة للحضارة والامة والاجيال. من هنا لم تجد السلطة الاموية الحاكمة في الشام طريقاً سوى ارتكاب جريمة اغتيال الامام الباقر عليه السلام بدسّ السمّ اليه، وهي الوسيلة التي التزمها جميع الحكام من بعد واقعة كربلاء، فقد تلعموا الدرس القاسي من الطاغية يزيد، لكن هذه الوسيلة الجبانة والدنيئة لم تشفع لهم، فالوعي والثقافة العميقة لدى الشريحة المؤمنة من الامة تدرك سبب وفاة الامام عليه ا لسلام، وهذا ما عجلّ بطي صفحة الحكم الاموي الى الابد، وهكذا هو مصير جميع انظمة الحكم التي سلّت سيف البغي ضد اهل البيت وشيعتهم ومواليهم وحاربتهم بمختلف الاساليب.
|
|