الدعاء؛ مدرسة التربية
|
*كريم الموسوي
قال سبحانه وتعالى: "وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ" (الأعراف،56).
نفهم من مجمل النصوص الدينية، أن الدعاء إلى الله تبارك وتعالى، بمثابة الضرورة الإيمانية، والتصديق العقائدي، والحاجة العقلية، والإلتجاء الروحي إلى ما هو أعلى من قدرة الإنسان، مهما كان قد أوتي من القوة والفعل.
فهو – الدعاء- ليس عجزاً ناتجاً عن الفشل والتكاسل والخطأ في التخطيط. بقدر ما هو سلاح ووسيلة مثلى، لنيل البركة والكرامة الإلهية، وتعبير عن الإعتراف لله تعالى بالفقر المطلق من جانب الداعي. نظراً لأن جوهر الإنسان ككائن مخلوق، فقير إلى الواجد الخالق.
وبالتالي، فإن التجاء ابن آدم إلى استخدام سلاح الدعاء، نوع من التربية الروحية، تطرد عنه كل تكبر وعناد وطغيان.
مدرسة تربوية رائعة
بلى؛ إن الأذكار والأدعية، كما تصلح وسيلةً ناجعة إلى الله تعالى، لنيل المطالب ومطامح الخير، كذلك هي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام وسيلة رائعة لصناعة وصياغة شخصية الإنسان، لأنها تختزل جملة العقائد الحقة والخالية من الأخطاء الفكرية والروحية. لذا كان اختيارهم عليهم السلام، مدروساً باتخاذ الدعاء وسيلة لصناعة الإنسان وتكريس الإيمان والتقوى في ذاته، بل الهدف هو بناء الانسان وليكون - الدعاء- منطلقاً نحو الكمال وليتحقق التناغم الرائع بين الوسيلة والهدف، فيفر الإنسان بواسطة رحمة الله، من غضب الله.
وإلى هذا نجد أنفسنا ملزمين بالقول: إن الأئمة الهداة عليهم السلام، اضطروا، وضمن ظروف سياسية واجتماعية. دفعهم الحكام الظلمة إليها، إلى اتخاذ وسيلة الدعاء لتحديد ملامح مدرستهم العقائدية والتربوية ونشرها في المجتمع والأجيال المتلاحقة.
ومن يقرأ ويتصفح أدعية الأئمة عليهم السلام، تتجلى له هذه الحقائق، إذ ان في نصوصهم الروحية تكرست معالم المدرسة النبوية والعلوية، فعكست كل كلمة منها طبيعة الربوبية والعبودية، ورسمت له أدق التفاصيل لعقيدة التوحيد التي ينادي بها أهل البيت سلام الله عليهم.
لقد علّم الله عزوجل الإنسان طرق التقرب إليه، والدعاء أحد هذه الطرق، بل لعله أوضحها وأيسرها. فقال سبحانه: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" فأمره أن يدعوه هو دون غيره. ليكون الدعاء تعبيراً سام، مفاده الإقرار التام بالفضل الأبدي، وللخالق المتعال على الإنسان.
وعلى هذا، لا يكون الدعاء مجرد لقلقة لسان، يفتعلها ابن آدم حين احساسه بالحاجه، وإنما هو وسيلة ارتباط بالقوة الربانية اللامتناهية. ولكي تتوفر في الدعاء شروط الإستجابة، يبقى على الفرد الداعي أن يتقن آداب الدعاء، ويحقق أساسياته، ثم يترك الأمر ويفوّض الغاية إلى حكمة الرب الكريم، في طبيعة وزمن الإستجابة.
كيف ندعو الله تعالى؟
حيث كان الإنسان جاهلاً، فقد أجرى الله سبحانه وتعالى على لسان أهل البيت عليهم السلام، الذين هم أقرب وسائل التوصل إلى كرم الرب، أجرى على لسانهم طرق وسبل تعليم كيفية الدعاء، إضافة إلى تعليمهم شروطه.
وإن من أهم الشروط: أن يتخذ الداعي أهل البيت وسيلة وشفعاء إلى ربه.. وهذه مشيئة الله، وليس لمشيئة الإنسان علاقة بهذا التحديث الإلهي.. والأحاديث المتفق عليها تؤكد أن هذه المشيئة كانت سارية حتى على الأنبياء لدى تضرعهم إلى الله والتماس الخلاص من المشاكل.
بدءاً بتوسل آدم بآل البيت، ومروراً بنوح وطوفانه الشهير، وكذلك موسى وانفلاق البحر له وانتهاء برسول الله أيضاً، الذي كان يأمر أهل بيته بالتأمين على دعائه في بعض الموارد.
وشرط آخر، هو: أن يتحلى الداعي بالإخلاص والعزم على طرد الرذائل عن نفسه.. فيضعها بين رجاء الإستجابة ورهبة الرد.
وهناك آداب أخرى للتقدم والإنشغال بالدعاء والتوسل، مثل: الإلحاح بالدعاء، وطرد اليأس؛ كل اليأس عن القلب، والتوكل على الله، واعتماد أكل الحلال، ونبذ لقمة الحرام، والتخلص مما للآخرين من الحقوق في الذمة، وتطهير الملابس ومكان الدعاء، وغير ذلك من الشروط التي تبحث في مظانّها بشكل تفصيلي.
أدعية أهل البيت عليهم السلام
قال تعالى "إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" والصلاة لغةً تعني الدعاء، واصطلاحاً تعني مجموع الحركات والأقوال للفرائض اليومية المعروفة، فلنا أن نقول بأن الدعاء وسيلة التخلص من الفحشاء والمنكر، بشرط أن يعي الداعي ما يقول، وبشرط أن يترجم ما يقول إلى حقيقة عملية.
وإن أفضل ما يمكن له أن يساعد الإنسان الداعي في تحقيق هذه المهمة التربوية، هو النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، لأنها تحوي ماقد يطلبه العبد من ربه، أو لنقل: إنها تعلم الإنسان كيف يدعو ربّه، وذلك حين التزامه بالنص المعصوم أثناء القراءة، بلا زيادة أو نقصان، إذ المعصوم لم يضع دعاءً أو ذكراً إلاّ وقد صنعه بدقة متناهية، دون عيب أو نقص، وليس خافياً أن التوسل لمقام الربوبية يستوجب اختيار النص المعصوم، كلماتٍ ومعانٍ.
أهداف تشريع الدعاء
إن من فضل الله على الإنسان، أن أكرمه بالسماح له بمخاطبته مباشرةً.. ولذلك يتأتى لنا القول: ان من يتعود قراءة الأدعية والاذكار وحتى نصوص زيارات المعصومين، رغبة في نيل ثواب ربه، ورجاءً لتحصيل رحمته، وتسليماً لأمره عز اسمه، فإن من الطبيعي، وما هو معروف من فضل الله،أن يستجاب له وينال مبتغاه، عاجلاً أو آجلاً..
ولكن...! هل هذا هو كل الهدف من الدعاء؟
لاريب أن هذا ليس هو الهدف الوحيد. لأن الأدعية الواردة في القرآن الكريم، أو جرت على لسان المعصومين عليهم السلام، تشكل موسوعة عقائدية وتربوية وعرفانية شاملة. مهمتها رسم الصورة الكاملة، والبعيدة عن الخيال والشعوذة، وفتح عقلية الإنسان، في فهم معنى إرادة الله في الخلق، ويعي موقفه في الحياة. فدعاء (عرفة) مثلاً، يضم منهجاً عقائدياً كاملاً، بينما دعاء (الإفتتاح)، يحوي دروساً أخلاقية فذة. أما دعاء (أبي حمزة الثمالي) و دعاء (الجوشن الكبير)، فيكرس الزخم الروحي والعرفاني لدى الفرد الداعي.
أما أدعية الشهور والأيام، فتحدد ملامح الفرصة الزمنية المتاحة للإنسان، لكونها نعمة ربانية جديرة باقتناصها، وكلماتها تنتقل بالداعي ضمن مساحات الوعي وتكامل الشخصية.
تقصير واضح!
إذا عرفنا كل هذه الميزات للأدعية، وكل هذا الدور العظيم، الذي يمكن للدعاء أن يلعبه، فلنا أن نتسائل عن سر الهجر الكبير والمجحف للأدعية المتوفرة أمامنا في كتب (مفاتيح الجنان) وغيرها، سواء على صعيد الفرد أو المجتمع، في خلواتنا ومجالسنا؟ كما نتسائل عن هذه الشحة المؤسفة في إعداد البحوث والدراسات في هذا الجانب؟ وعن عدم توجيه الناس من قبل العلماء والخطباء الى مدرسة أهل البيت عليهم السلام التربوية، لاتخاذ الدعاء سلاحاً للتغيير الفردي والإجتماعي في بلدنا الحبيب، وكل بلد اسلامي يطمح للتغيير والاصلاح والتقدم؟
ولفرط الاستهانة بثقافة الدعاء الصحيحة، نجد أن الكثير من المتصيّدين بالماء العكر والضاحكين على العقول يستغلون مشاكل الناس البسطاء الجهلة ليفتحوا متجراً دينياً - إن صحّ التعبير- فيملؤوا جيوبهم بعد أن يكتبوا صكوك الأدعية والأذكار التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولم ترد على لسان نبيٍّ أو إمام، شأنهم في ذلك شأن أولئك القساوسة الذين كانوا يصدرون صكوك الجنة، فيبيعون للناس بمن فيهم أعتى المجرمين أراضي الدار الآخرة بحورها وولدانها المخلّدين! تحت طائلة أن السيد المسيح سيتحمل اوزارهم في يوم القيامة، فيغفر لهم الله خطاياهم.
أن بعض وسائل الاعلام والقنوات الفضائية التي يفترض بها تنوير العقول ونشر المعلومات عكفت على الترويج لثقافة الإستهتار بالعقول وهي تسلك في خطيئتها الخطيرة هذه مسلك الإرادة الحاكمة على مقدّرات الناس ومصائرهم في المجتمعات المسلمة التي لاهمّ لها إلا البقاء والتشبث بالسلطة والسيطرة والتفنن والإبداع في التبعية للأجنبي الغريب. بينما الثقافة القرآنية ومنهج أهل البيت عليهم السلام تعارض مطلق المعارضة هذه الثقافة التي تسلب من الإنسان والمجتمع شعورهما بالمسؤولية ونعني بها المسؤولية القائلة بضرورة التقدم والتطور ضمن دائرة التقرب إلى الله تعالى.
|
|