قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

عن تجربة الاحزاب في العراق: المشكلة في العقلية وليست في الهوية
نـزار حيدر
ان مشكلة السياسيين العراقيين لا تكمن في انتماءاتهم وازيائهم وهوياتهم، وانما في العقلية التي تحكمهم، والتي يفكرون بها لادارة العملية السياسية بشكل عام، والسلطة بشكل خاص. المشكلة عندنا ليست بسبب هوية الاحزاب، سواء أكانت قومية أم يسارية او حتى دينية، ابدا، وانما بسبب العقلية التي تحكم هذه الاحزاب، سواء عندما تكون في السلطة او خارجها، في المعارضة، والدليل على ذلك، هو ان العراق، ومنذ تاسيسه في العام 1921 ولحد الآن، حكمته تيارات حزبية مختلفة، الا ان المشكلة بقيت كما هي، استبداد وديكتاتورية وانظمة شمولية، والتي انتجت تخلفا وفقرا وجهلا وامية، فلو كانت المشكلة في هوية الحزب الحاكم، للمس العراقيون تغييرا يذكر على اي صعيد من الاصعدة، كلما تغير التيار السياسي الحاكم، ولكن، وبسبب ان المشكلة في عقلية الزعامات، لذلك استُنسخت، - بضم التاء الاولى -، المشاكل من جيل لآخر، ومن حقبة زمنية لاخرى، ومن تيار حاكم لآخر، على مدى قرن من الزمن تقريبا. ان الفرق الجوهري في التجربة الحزبية في العراق، هو ان الدينية وصلت الى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع، فهي اذن خيار الشعب، الى الآن على الاقل، اما الاحزاب اليسارية والقومية وغيرها، فقد وصلت الى السلطة في بغداد عن طريق الانقلابات العسكرية، واكوام جماجم الضحايا، عندما امتطت الدبابات لتقتحم القصر الجمهوري في خلسة من الليل والناس نيام، وفي احسن الفروض بالتآمر، او من خلال الجبهات والتحالفات المشبوهة مع نظام غير شرعي وصل الى السلطة بانقلاب عسكري. ولان المشكلة تكمن في العقلية التي تحكم الاحزاب، ولذلك فان الامراض الحزبية موزعة عليهم بشكل (عادل) ومتساوي، منها على سبيل المثال لا الحصر:
*غياب النظام الديمقراطي داخل المؤسسة الحزبية، وانعدام القدرة على استيعاب الرأي الآخر، والنقد والمحاسبة، ومراجعة السياسات الحزبية العامة والخاصة. *توالي الانشقاقات، على الطريقة الاميبية وبالمتواليات الهندسية، ولذلك نرى ان هناك اليوم عدة تنظيمات تحمل اسما واحدا بفارق حرف او نقطة او كلمة، وكل يدعي شرعية تمثيله للحزب الام. *بقاء الزعيم التاريخي على راس الهرم الحزبي، والذي لا يتغير عادة الا بالشيخوخة او الموت، اذا كان الحزب يمتلك بقايا من اخلاق، او بالقتل والتآمر والاغتيال، اذا كان الحزب قد نزع عن نفسه كل القيم. *اعتماد المليشيات للسيطرة على الشارع، فمنذ ان شهد العراق تغيير نوع النظام السياسي من الملكي الى الجمهوري، واعتماد الحزب الشيوعي على المليشيات للسيطرة على الشارع العراقي، واعتماده اسلوب القتل والسحل والدعوة، بتظاهرت غوغائية صاخبة، لاعدام كل من يخالفه الراي والاتجاه السياسي، خاصة بعد اصطدامه بالتيار الديني آنذاك والذي كان ينعته بالتيار الرجعي (الرجعية الدينية) عندما سعى الى اغتيال اكثر من مرجعية دينية في مدينتي النجف الاشرف وكربلاء المقدسة، تقف على راسها المرجع السيد محسن الحكيم والمرجع السيد الشيرازي والسيد القزويني، ما فتئت الاحزاب تعتمد على المليشيات للسيطرة على الشارع، لدرجة ان حزب البعث المنحل الذي ظل في السلطة (35) عاما وبلا منازع، ظل يعتمد على المليشيات لبسط سيطرته على البلاد والعباد، بالرغم من سيطرته المطلقة على المؤسسة العسكرية وبلا منازع. *الفارق الوحيد، ربما، بين التيارات اليسارية والقومية، من جهة، والتيار الديني، من جهة اخرى، هو عدم لجوء الاخير الى التصفيات الجسدية لعناصره ورجالاته وشخصياته التي تختلف معه وتترك صفوفه، مرة اخرى اقول الى الان على الاقل، متمنيا ان لا يحدث هذا ابدا، اما التيارات اليسارية والقومية فقد مارست عمليات التصفية الجسدية لرفاق الدرب حتى تعبت وانهكت وتحللت. *اشتراك كل هذه الاحزاب، في النظام الداخلي والمسميات القيادية، بالرغم من اختلاف هوياتها وخلفياتها الفكرية والايديولوجية، فلكل منها (الامين او السكرتير العام) (المكتب السياسي) (الهيئة العامة او اللجنة المركزية) وغير ذلك.
فهل الاحزاب الحاكمة اليوم في بغداد تتحمل كامل المسؤولية عما يجري على المواطن العراقي، من معاناة حقيقية بسبب تردي الاوضاع الخدمية والمعيشية فضلا عن الامنية وانتشار الظواهر السلبية كالفساد المالي والاداري. لست هنا في وارد الدفاع عن الاحزاب الحاكمة، بمقدار ما اسعى الى انصاف الواقع، وعدم غبن او ظلم احد، ما يدعو الى ان ننظر الى ما يجري اليوم في العراق بعقل المنصف وعين المتفحص، فالعراقيون اليوم، ومعهم السياسيون والاحزاب الحاكمة، ورثوا مشاكل معقدة جدا تراكمت على مدى تسعين عاما تقريبا، فلقد ورثوا:
اولا: غياب مفهوم الدولة، ففي العراق لم تبن دولة وانما حكمت انظمة، ولذلك ترانا نشهد تغييرا حتى في علم البلاد كلما شهدنا انقلابا او تغييرا في السلطة. ثانيا: غياب المواطنة، ففي العراق لا يوجد شيء اسمه شعب وانما هناك رعايا يعيشون في ظل انظمة سياسية، ولذلك شهد العراق عمليات تهجير قسري على راس كل عقد من الزمن، منذ العشرينيات من القرن الماضي والى الان، ومن دون انقطاع. وربما لهذا السبب، ظلت ولاءات الاحزاب السياسية مشدودة الى ما وراء الحدود، وكلنا يتذكر ولاءات الحزب الشيوعي العراقي، في حقبة المد اليساري، الى الاتحاد السوفياتي المنحل، لدرجة ان العراقيين باتوا وقتها يتندرون بالطرفة التي تقول (اذا امطرت السماء في موسكو، فالشيوعيون في بغداد يرفعون المظلات فوق رؤوسهم) طبعا حتى اذا كان الوقت صيفا في بغداد، ذو الحر القائض. ولا يختلف حال ولاءات الاحزاب الحالية كثيرا عن هذه الصورة، وان اختلفت اتجاهات البوصلة السياسية، تبعا لاتجاهاتها العقائدية والسياسية وتبعا لمصالحها الحزبية. ثالثا: غياب الدستور والقانون، فالعراق تحكمه قرارات السلطة الحاكمة، وليس القانون، فالحاكم هو المدعي وهو المشتكي وهو القاضي وهو الشهود. رابعا: بالاضافة الى ان العراقيين ورثوا الفساد وبكل اشكاله منذ عقود طويلة تقرب من القرن الكامل، طبعا بنسب متفاوتة، وبقراءة سريعة لمذكرات السياسيين العراقيين الذين مروا في الحياة السياسية طوال الفترة المنصرمة من تاريخ العراق الحديث، سنكتشف هذه الحقيقة بلا جدال. خامسا: كما ورث العراقيون التمييز الطائفي والعنصري، والتقسيم على اساس الولاء للحاكم، بين فئة الف وفئة باء وغيرها.
ان كل هذه المشاكل المتراكمة، هي التي تقف وراء الفشل الذي يتحدث عنه العراقيون في اكثر من مرفق من مرافق الدولة الجديدة، ولذلك، ومن اجل ان يتجاوز العراقيون كل هذه المشاكل عليهم، خاصة الطبقة السياسية: اولا: التعاون فيما بينهم، وترك سياسات التربص والاختلاف على وفي كل شيء. ثانيا: الصبر على التغيير وعدم الاستعجال، فالهدم بسيط جديا وسريع، اما البناء فصعب جدا وبطيء، وان التغييرات التاريخية لا يمكن انجازها بعصا موسى السحرية او بالاحلام الوردية، او بالعجلة في الامور. ثالثا: تغيير العقلية وعدم الاكتفاء بتغيير الهوية والازياء والاسماء، فالتغيير الحقيقي بحاجة الى تغيير جوهري يمس الجذور، وعدم الاكتفاء بالبحث في التغيير السطحي. رابعا: التسلح بالرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى، وعدم الانشغال بالنظرة التكتيكية قصيرة الاجل للامور، فالدولة لا تبنيها ملايين التكتيكات، وانما برؤية استراتيجية تنظر لكل الجوانب، وتبحث عن حلول حقيقية وواقعية للمشاكل والعقبات، وتضع الخطط المنطقية، التي تاخذ الواقع والتحديات والامكانيات بنظر الاعتبار.