دور منظمات المجتمع المدني في مكافحة الفساد
|
* جميل عودة
قال الله تعالى: (لَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ).
ليس ثمةُ شك أن الفساد بكل أنواعه وأشكاله، يمثل انحرافا عن السلوك والقيم والأخلاق، وتعديا على الأنظمة والقوانين، وقد أصبح من المعلوم أن الفساد المالي والإداري والسياسي يمثل تهديدا خطيرا لنظم الإدارة العامة السليمة، ويشكّلُ عقبة أمام خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويحولُ دون تدفق الاستثمارات المحلية والخارجية. فضلا عن كونه يتعارضُ مع معايير النزاهة والشفافية وقواعد الحكومة الجيدة وأنظمة الحكم السليم. وليس ثمة شك أيضا أن محصلةَ هذا الانحراف، ونتائجَ هذا التعدي هو أن يعيشَ غالبيةُ الناس في فقر وحاجة وحرمان ومرض ؛ لأن الأموالَ التي كان يفترض أن تنفقَ عليهم لتحسين أحوالهم المعيشية والصحية قد استولى عليها أناسُ من معدومي الضمير والأخلاق والدين؛ ممن مكنتهم آلاتُ الفساد أن يختلسوا السلطة اختلاسا، وأن يتولوا الوظائفَ العامة والخاصة على حساب الكفاءة والنزاهة والشرف.
ظاهرة الفساد في العراق ظاهرة خطيرة، لها ثلاثة أبعاد، تغذي بعضها البعض، وتعزز قدرة بعضها البعض:
البعد الأول: وهو البعد الحكومي والذي يتمثل في خلايا الفاسدين والمفسدين من موظفي الدولة المتنفذين والمؤثرين في القرار السياسي والمالي. والبعد الثاني: وهو البعد غير الحكومي، والذي يتمثل في شبكات القطاع الخاص وبعض الشركات الخاصة الساعية لتحقق الربح والفائدة في مشاريع الدولة على حساب حقوق المواطن. والبعد الثالث: وهو البعد الأجنبي، الإقليمي منه والدولي، والذي يتمثل في إخطبوط الفساد المتعدد الجنسيات، بعناوينه المعروفة من منح وقروض وهبات ومساعدات تهدد مصالح البلاد العليا مادامت لا توظف لمصلحة البلاد والشعب. من هنا تأتي أهميةُ التصدي للفاسدين والمفسدين ومكافحةِ ظاهرة الفساد في العراق بعناصرها وأبعادها الثلاثة، بما يوفر أجواءً سليمة ومتعافية وبما يعزز قيمَ المساءلة والعدالة. ولعل اللقاءات والمؤتمرات المعنية بهذا الموضوع- إذا ما كانت صادقةَ وجادةَ- تمثل أنموذجا للمشاركة والتعاون لوضع الاستراتيجيات والخطط اللازمة لكبح الفساد، وزيادةِ الوعي والإدراك بمخاطر الفساد وآثاره، ونرجو أن يكون هذا المؤتمر الذي نشارك فيه، خطوةًَ في هذا الاتجاه.
نحن في العراق، ورُغم ما يُقال عن الفساد في دوائر الدولة ومؤسساتها إلا أننا لدينا مساحةً واسعةَ من الحرية في الحديث عن الفساد علانية بمحضر وغياب رجال الدولة، ولا نخاف لومة لائم؛ وهو ما لا يتوفر لدى كثيرِ من شعوب الدول الأخرى. ولكن مع كل هذه الجهود التي يبذلها الخيرون من المسئولين والموظفين فان العمل الحكومي يظل دائما قاصرا وعاجزا عن تحقيق أهدافه ما لم تتضافر جهودُ الدولة مع جهود منظمات المجتمع المدني، ووسائلِ الإعلام المختلفة لنشر ثقافة الشفافية والمساءلة. لذلك فان مبادرات إقامة المؤتمرات من قبل منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تمثل مؤشراً إيجابياً لتلك الجهود، ورغبةَ صادقة من المؤسسات والهيئات العامة ومنظمات المجتمع المدني لتبادل المعرفة والتجربة في مجال مكافحة الفساد. لكن من أين نبدأ؟ وكيف نبدأ؟ وما هي خططنا وبرامجنا وآلياتنا؟ هذا ما يجب أن نوليه اهتماما كبيرا في مناقشات ونتائج مؤتمر منظمات المجتمع المدني لمكافحة الفساد. اسمحوا لي أن أبين بعض النقاط الأساسية التي حدد القرآن الكريم في رؤيته الثاقبة لظاهرة الفساد أسبابه ونتائجه وأيضا علاجاته. فمن الأسباب التي حددها القرآن الكريم لشيوع الفساد بكل أنواعه وأشكاله، ومنه الفساد الإداري والمالي والسياسي، هي:
أولا: الظلم، كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا). ثانيا: البطر في المعيشة، ومن وجوه البطر هو الإسراف وتبديد الثروة الوطنية، قال الله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) فإن البطر يوجب الفساد والإفساد. ثالثا:الفسق، والفسق هو الانحراف الأخلاقي والاجتماعي، قال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قريةٌ أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول). رابعا: عدم الأخذ بكلام الناصحين والمخلصين، قال تعالى: (ولكن لا تحبون الناصحين). خامسا: أتباع الملوك والمستبدين، قال تعالى (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ). سادسا: إشاعة المجاملات والابتعاد عن الحق، كما قال تعالى (بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ).
أما الحلول والعلاجات التي بينها لنا القرآن الكريم والتي يجب أن نعتمدها إن كنا صادقين وجادين وعازمين على اجتثاث الفساد من أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا ودوائرنا ومؤسساتنا، هي:
أولاً: نزاهة المصلحين: لعل من أهم ما يجب أن نعمل عليه لمكافحة ظاهرة الفساد هو اختيار نموذجِ من المصلحين، البعيدين عن الشبهات، والمعروفين بالنزاهة، لان النزاهة شرط في المصلحين، وإلا فإن كلامهم يفقد أثره، بل يكون تأثيره عكسيّاً. فإذا كان النموذجُ السلبي هو أهم سبب لابتعاد الناس عن الإصلاح ومقاربتهم للفساد، فان النموذج الإيجابي هو أقصرُ الطرق للوصول إلى الهدف المنشود وتحقيق الصلاح.
ثانيا- الاستقامة: يجب أن نضمن استقامة القائمين على مكافحة الفساد في بلادنا، أو المسهمين في برنامج مكافحة الفساد، لان المصلحين وإن كانوا يتمتعون بالنزاهة من حيث المبدأ، فانا لا نضمن استقامتَهم لأنهم بالتأكيد سوف يتعرضون إلى ضغوط مختلفة ويحاربون بشتى أنواع المحاربة، وقد تُعرض مصالحهُم المادية والمعنوية للخطر، وقد تشوه سمعتهم وسمعة أبنائهم وأقربائهم، وقد يصفون جسدياً، كما حدث ويحدث مع موظفي مؤسسات الرقابة والنزاهة. فالاستقامة هي التي توصلنا إلى مكافحة الفساد وتحقق الإصلاح ولو بعد حين، ففي وصية موسى لهارون(عليهما السلام): (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).
ثالثا: العمل على تهيئة المجتمع المحلي لتقبل عملية الإصلاح: الفساد بكل حال من الأحوال هو نتاجُ وثمرةُ سنوات من العمل المنحرف، ولم يأتِ دفعةً واحدة ومرةً واحدة، وبالتالي فان مكافحةً الفساد وتحقيقً الإصلاح لا يمكن أن يكون دفعةً واحدة أيضا، بل يحتاج إلى خطط وبرامج ووقت كافٍ. رابعا: الإرشاد والتوجيه المستمر أو ما يعرف في الفلسفة القرآنية "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فإن كل عمل يعمله الإنسان لا يخلوا من أثر عاجلاً أو آجلاً، والكلام من العمل الذي يؤثر أثره سواءً كان كلاماً طيباً أم خبيثاً (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ). و من هذا المنطق وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الكلام يؤثر أثره. خامسا: استثمار جميع الإمكانات والوسائل: الفاسدون والمفسدون عادة ما يتمتعون بحماية سواء حمايةِ قانونية أو حماية سياسية أو حماية عسكرية أو حماية دولية لأنهم من دون هذه الحمايات سيصبحون فريسة سهلة للقانون والعدالة والمسائلة، لذا على من يريد الإصلاح والصلاح عليه أن يتمتع بقوة تماثل أو تفوق تلك القوة التي يتحصن بها الفاسدون والمفسدون. قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ). سادسا: تكاتف الجهود: فإن تبعثر الجهود توجب عدم الوصول إلى الهدف المنشود لأن الجهد المنفرد لا يحقق نتائجه المرجوة، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).
|
|