قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

قراءة في التاريخ
*الشيخ زكريا داود
تكوين وعي صحيح بالتاريخ أمر في غاية الصعوبة لتداخل عوامل شتى في صنعه، لكنه أمر في غاية الضرورة لتجاوز أزمات واقعنا المعاصر، لأن التاريخ يُعَدُّ مكوناً أساسياً في صنع عقلية الأمة وتكوين نظامها المعرفي، ولا يمكننا أن نحلل الأزمات ونوجد آليات الخروج منها بعيداً عن نقد التاريخ وقراءته بشكل موضوعي يجعل الهدف الأساس هو تحرير الحقيقة من مشتهياتنا الفكرية وميولنا الثقافية ونظرتنا المتوارثة.
ولعل نظرة متأملة لواقعنا والبحث في أكثر مكوناته تأثيراً في حركته وصيرورته يرشدنا إلى أن التاريخ بأحداثه وشخوصه وتياراته لا زال حاضراً وبقوة في تكوين وعينا وميولنا الفكرية وعلاقاتنا الاجتماعية، بل إن جزءاً من التاريخ لازال يحركنا كدمية لا تملك التفكير والقدرة على الاختيار، ولا زال التاريخ يفرض مواقف شخوصه ونظرتهم في التعامل مع الآخر وكأنه هو نفسه الذي عاش تلك الحقبة الزمنية.
وهنا يتضح أن تاريخنا يحركنا في اتجاه قد لا يكون صحيحاً في عصرنا الراهن، أو لا ينبغي أن نتماهى في السير فيه إلى أقصاه، بل ومن الحكمة أن نمارس حالة الشهود الموكلة لنا من قبل خالقنا في التصحيح والتغيير لفكرنا وثقافتنا وعلاقتنا ونظرتنا للآخر وللحياة بأكملها، وهذا الأمر لا يمكننا القيام به ونحن ننظر لتاريخنا على أنه منجز نهائي لا يمكننا أن ننتقده فضلاً عن تصحيح مساره.
مشكلة تقديس التاريخ
إننا نؤمن أن تاريخنا يمثل جزءاً هاماً من شخصيتنا المعاصرة وأن لا انفكاك منه بشكل تام، وأن السعي لتحييد التاريخ من هويتنا المعاصرة يفقدنا القدرة على التقدم والتطور والإبداع وتحقيق منجز معرفي صحيح له القدرة على الحضور في عالمنا المعاصر، لكنه كذلك يمثل عائقاً كبيراً إذا نظرنا إليه باعتباره النموذج المثالي الذي لا شائبة فيه.
إن تاريخنا صنعه الإنسان الذي تؤثر فيه الميول والأهواء والمحيط وما تكتنفه من ثقافات وما تشربه من قيم وسلوك وما تحيط به من طبيعة، ولا يمكن للإنسان أن ينعتق من تأثير تلك الأمور إلا إذا رباه الله بهديه ومنهاجه، وليس ذلك إلا لبشر خصَّهم الله بكرامته. وما دام الإنسان هو من صنع التاريخ فلابد أن يكتنفه النقص والاشتباه والخطأ، لأن من طبيعته ذلك، وما دام الأمر كذلك فإن التأمل في أحداث تاريخنا ونقده لأخذ العبر ضرورة حضارية، وهذا بالذات ما قامت به الأمم المتقدمة التي استطاعت أن تتحرر من ربقة التاريخ وتستفيد منه في صنع حاضرها ومستقبلها من خلال ممارسة النقد والتصحيح وإزالة أوهام القداسة عن العديد من أحداثه وشخصياته ورموزه الذي كان يرى فيهم يوماً ما خطًّا أحمرَ يحرم على العقل الاقتراب منه أو التفكير في نقده أو تخطئته.
إن ما نراه اليوم من أحداث معاصرة يمثل بعضها اجتراراً لحقب تاريخية معينة لنسقطها على واقعنا ونترسم من خلالها تلك المواقف التي صنعت التاريخ، وليس بالضرورة أن تكون تلك المواقف أو أشخاصها مصيبين فيما رأوه، ولكي نكتشف ذلك لابد أن نفتح باب الاجتهاد في قراءة التاريخ، ويعني ذلك أن من يصيب في قراءته لأحداثه فله أجران ومن يخطئ فله أجر، وليس من الصحيح أن نصمُّ أسماعنا عن الحقائق لمجرد توارثها كمقدسات وليس من الصحيح أن نخرج من يجتهد في قراءته للتاريخ فيأتي برأي يخالف ما توارثناه أن ننعته بالسفه أو الجنون، لأن هذا بالذات هو ما مارسه المجتمع الجاهلي تجاه كل دعوة جديدة تأتي بما يخالف موروثاته.
إننا مدعوون أن نُعمل عقولنا ونمارس الحوار الجاد والموضوعي في قراءة التاريخ، لكن ذلك لا يعني أن نمارس الشتيمة والسباب لأشخاص صنعوا التاريخ وأثروا في تكوين فكر وثقافة الآخر، ليس لأن ذلك مخالف لمنهج القرآن فحسب، بل لأنه يحرف الحوار والتثاقف بين المختلفين عن مساره الصحيح، ولأنه يخلق حالة من الاحتقان بين أطياف مجتمعاتنا، وهو أمر لا يساعد الأمة على تجاوز أزماتها الخانقة.
لا إفراط ولا تفريط
للأسف الشديد يسود عصرنا الراهن منهجان في قراءة التاريخ وكلاهما لا يساعدان على فهمه بشكل صحيح: الأول: منهج التقديس المفرط للتاريخ ومن صنعوه.
والثاني: منهج شيطنة التاريخ برموزه وأحداثه.
وكلا المنهجين لا يساعدانا على فهم حقيقة ما وقع في التاريخ ولا حقيقة الأشخاص الذين صنعوه، ولو نظرنا لعصرنا الحاضر لرأينا كلا المنهجين حاضراً وبشكل قوي في ذهنية وتفكير أطياف الأمة وتياراتها الفكرية، لنلاحظ سلطة تمجدها آلتها الإعلامية وكأنها المنقذ الوحيد والفريد للأمة من أزماتها، وأن شخوصها عبقريات لا يمكن أن يجود بمثلهم الزمان أبداً، وفي الجهة المقابلة تشاهد الاتجاه المعارض للسلطة على النقيض تماماً فيسلب تلك السلطة ورموزها كل فضيلة ليحول حتى المنجزات الحقيقية والجادة إلى أكاذيب وأوهام ومظاهر خادعة.
ولعل هذا الأمر هو الذي يعقد أزماتنا ويجعل الحل مستعصياً على التحقق رغم الجهود الكثيرة التي يبذلها المفكرون والمصلحون ومن حملوا راية التغيير والإصلاح في العديد من بلداننا العربية والإسلامية، وبسبب تلك الجدلية المستعصية على الحل نما اتجاه داخل منظومتنا المعرفية يدعو للقطيعة التامة مع تاريخنا وبناء رؤيتنا وثقافتنا ومجتمعاتنا المعاصرة بعيداً عنه، وهو أمر لا يمكن تحقيقه أبداً لأن ذلك يعني الانسلاخ عن هويتنا وديننا، لأن التاريخ مكون أساس في صنع هويتنا وشخصيتنا ومكون أساس من وعينا الديني.
أما ما تدعو اليه الحكمة هو ممارسة الاعتدال في قراءتنا للتاريخ، وأن نعي أن العديد ممن ساهم في صنعه لا يملك العصمة من الخطأ، وما دام الأمر كذلك فليس من الصحيح أن نتهيب من عملية النقد والتأمل في أحداثه وتقييم شخصياته، وهذا ما دعانا إليه ربنا في كتابه: "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ" (سورة آل عمران /137 – 138)، وإذا كنا ننتقد تاريخ الأمم وشخوصه وأحداثه فليس من الإنصاف أن نلبس تاريخنا ثوب القداسة وأن ننظر لكل من أسهم في صنع أحداثه نظرة تقديس، لأن القرآن الكريم عندما يذكر أحوال الأمم والأحداث التي جرت من خلال أكثر من ثلثي آياته، إنما يريد من ذلك أن نستلهم العبر وأن ننظر لتجارب الإنسان في التاريخ فنستفيد من ذلك في تجاوز أخطاء الأمم، أما إذا نظرنا لتاريخنا نظرة قداسة فإن الفائدة من تلك الآيات تنتفي، لأن القرآن الكريم ذكر ما حدث في الأمم السابقة وذكر كذلك العديد من الأحداث والمواقف التي أفرزتها الأطياف والشخصيات التي ساهمت في صنع التاريخ ممن التف حول الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (سورة يوسف /111) وإذا كنا نرفض التخطئة والتقديس المطلق، فإننا نعتمد منهج القرآن الكريم في النظر للأحداث أو الأشخاص التاريخية، وهو المنهج الذي يدعو للاعتدال والوسطية، فليس كل من ساهم في صنع أحداث تاريخنا مقدساً وكذلك ليسوا كلهم مخطئين، إنما هم بشر يصيبون ويخطئون، وبعض هؤلاء يرجعون للصواب بعد الخطأ وبعضهم يصر على الخطيئة إلى آخر رمق من حياته، هذا هو منهج القرآن الكريم في نظرته للأشخاص مهما كان قربهم أو بعدهم عن صاحب الرسالة، قال تعالى في كتابه وهو يوضح هذه الحقيقة: "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (سورة البقرة /253).
منهج قرآني لنقد التاريخ
إن النقاش والنقد الموضوعي لأحداث التاريخ ضرورة ملحة للتخلص من أوهام القداسة، كما أنه ضرورة كذلك للعبور للمستقبل وتحقيق نهضة حضارية، ومن خلال النقد الموضوعي المنضبط بأخلاقيات القرآن الكريم تبدأ عملية إصلاح العقلية الاسلامية التي ارتهنت بموروثات وقيم ساهمت في تكريس ثنائية القداسة والشيطنة، ونحن من خلال التدبر في آيات الذكر الحكيم نعرف أن التاريخ صنعه البشر وهم مختلفو المعادن، لتؤكد الآيات أن الأصل في النظر لمن صنعوا التاريخ ليس القداسة، فالأصل أنهم بشر، وأنهم يمكن أن يصنعوا تاريخاً ناصعاً ويتصفوا بالقداسة، ويمكن أن يكونوا غير ذلك، ولكي نعرف حقائق التاريخ بشكل صحيح ليكون الاقتداء عن بصيرة لابد أن نمارس النقد والتحليل والقراءة الجادة والموضوعية البعيدة عن الأهواء والمشتهيات الفكرية والموروثات الثقافية. وهذا الأمر بالذات يستدعي أن نستحضر المنهج القرآني في طرح ما يختلف حوله البشر، والذي يمكن أن نحدد ملامحه من خلال الآتي:
أولاً: أن القراءة التاريخية هدفها الأساس أخذ العبرة والموعظة، وليس إظهار عيوب الآخرين. قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (سورة يوسف/ 111). ان قراءة التاريخ تمثل في المنهج القرآني مدخلاً مهماً لتصحيح مسار العقل البشري، لكنها في الوقت ذاته تستلزم تحري الصدق والأمانة في النقل، كما أن تحديد مسارها من خلال طلب العبرة والاستفادة منه في تأسيس حياتنا المعاصرة تستدعي ألَّا نخوض في التاريخ لنكرس حالة القطيعة والتمزق، لأن هذا ما يرفضه النهج القرآني الذي يرى أن القراءة التاريخية هي من أجل تكريس البصيرة وإشاعة قيم التواصل، فالرحمة في الآية الكريمة تتجلى في إشاعة التراحم أي التواصل بين البشر الذين خرجوا من رحم واحدة، واقتضت حكمة الله أن يتفرقوا أمماً وشعوباً وقبائل وملل مختلفة في الفكر متصلة في الرحم.
ثانياً: قراءة التاريخ لمعرفة الآخر وإشاعة قيم الحوار، وليس للفتنة وخلق عداء بين أطياف الأمة. إن من يقرأ التاريخ وينظر لسيرة الاختلاف في الأمم الماضية، ويشاهد ما يحدث في عالمنا المعاصر من التباين في المواقف والتمايز في الأفكار والمذاهب والثقافات، يتبين له أن عصرنا هو امتداد لماضينا بتلون أطيافه وتمايز شعوبه واختلاف أفكاره وثقافاته، وهذا يوصلنا إلى نتيجة قرآنية مهمة في معرفة التاريخ وهي استحالة حمل الناس جميعاً على مذهب أو دين أو عقيدة أو رأي واحد، وأن هذا الاختلاف طبيعي وأننا مطالبون أن نتعايش مع هذا الواقع وأن نكرس قيم التواصل والحوار والتثاقف بين بعضنا البعض، لأنه السبيل الوحيد لتقصير مسافات البعد في وجهات النظر المختلفة.
وعند قراءتنا للتاريخ يمكننا أن نجعله جسراً للتلاقي والتواصل والمحبة بيننا، ويمكننا كذلك أن نجعله وسيلة لإثارة الفتن وخلق العداء بين أطياف الأمة، ولعل التركيز على نقاط التباين والاختلاف والنقد الجارح وغير المتزن للآخر ولرموزه وما يعتز به، لا يمثل خطأً منهجيًّا في قراءة التاريخ وتجافياً عن الرؤية القرآنية فحسب، بل إن ذلك يمكن أن يحرف مسيرة الأمة لتصبح رهينة الفتن والحروب والتقاتل بين أطيافها. قال تعالى وهو يبين الحكمة من الاختلاف وكيفية التعامل معه: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون" (سورة هود /118-123).