اللامسؤولية و دورها في انفراط عقد الوحدة
|
*محمد علي تقي
اذا فكّر كل واحد منّا بوضعه الخاص مهنياً واجتماعياً وثقافياً وفي مختلف الجوانب ليصل الى مستوى لا يعيبه أحد، فانه قد يبلغ مبتغاه ويعيش كما يحب. فهذا فرد واحد من جملة افراد في المجتمع، وربما ينضم اليه آخرون على هذا النهج والشاكلة فتكون لدينا وحدات مستقلة كل يفكر بالطريقة والمزاج الخاص به، ويساعد على تكريس هذا الواقع ما نراه اليوم من توفر التقنية المدهشة للاتصالات والمعلومات حول العالم، لكن يغفل الكثير عن ان هذه التقنية بالحقيقة هي مشروع فكري – ثقافي وليس ترفيهياً على الاغلب، فما نراه ونسمعه يعكس جملة من التوجهات الفكرية لمدارس شتى وليس لافراد معدودين كما نحن عليه، فاين توجهنا الفكري الخاص بنا؟
ليكون واضحاً ان منهجية الانسان في التفكير تحدد مستقبل حياته، ومن أهم ما ينبغي ان ينتبه اليه الانسان في نفسه هو هذه المنهجية. فاذا أضاءت له الطريق نحو التفكير المسؤول والجماعي فذاك خير على خير، وان كانت تقودك نحو الخمول والشكوك والخذلان وتزودك بالتبريرات والاعذار، فان هذا الطريق يؤدي الى المجهول، بحيث لا يعلم صاحبه ما سيكون عليه بعد يوم غد، فكل حياته مفاجآت ومطبات غير متوقعة.
إرادة الاختيار
ومن هذا المنطلق على الانسان وهو يواجه الافكار المختلفة في حياته ان يتساءل دوما : هل هذا الفكر هو فكر مسؤول أم لا؟ وهل هو فكر التغيير والاصلاح أم فكر التبرير والتقوقع؟ وهل فكر التصدي والانتصار أم فكر الهزيمة ؟ وقد اشار البارئ عزّوجل الى هذه العملية الحياتية للانسان وهي التمييز بين الغث والسمين في قوله: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" (الزمر /18)، هذه الآية تضيء لنا نقطة الارادة، هذه النعمة التي خصها الله الانسان بها، فهو يستمع لهذا القول وذاك، يبقى عليه التمييز بين الحسن والقبيح، فهنالك قول ينبعث من ضمير نقي يتصل بالوحي كما يقول تعالى: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى" (النجم / 3-4)، بينما هناك قول آخر ينبعث من ضمير ملوث يتصل بالجهل.
وفي مجتمعنا اليوم افكار كثيرة تنتشر في ساحة المواجهة الفكرية المحتدمة، بحيث قد يحمل الواحد منّا افكار وثقافة دونما شعور منه، وتؤثر عليه وعلى حياته وهو يحسبها من عند نفسه، بينما هي دخيلة وغريبة على واقعه وجذوره العقائدية والتاريخية، هذا النوع من الافكار أخطر علينا من القنابل النووية، انها فيروسات اكثر فتكاً من الاعداء الظاهريين. إذن؛ المطلوب هو البحث عن الفكر المسؤول وليس التملّص من المسؤولية أو القائها على هذا وذاك، وكأن الواحد منّا هو آخر من يتحمل المسؤولية!
ان منهجية اولئك الذين يتملصون من المسؤولية هي التي تدعو الى الخمول والاتكالية والتخلف، وهذه المنهجية هي المسؤولة عن واقعنا المزري، واذا لم نبادر الى تغييرها فليس بامكاننا ان نفعل شيئا. ربما هنالك من يقول: ان الانسان محاط بقوانين وأنظمة في الطبيعة والكون وان جسمه خاضع لهذه القوانين من قبيل الجاذبية والحرارة والبرودة والضغط الجوي وانظمة كونية تؤثر حتى على ذهن ودماغ الانسان، كما يتحدث البعض عن عوامل التأثير الاخرى من قبيل التربية والتاريخ والأرض ووالظروف الاجتماعية والسياسية السائدة. ولكن تبقى الارادة عند الانسان فوق تلك السنن والقوانين، فهو يحمل في داخله هذا النور الالهي العظيم. وبها يستطيع ان يتحدى كل تلك القوانين.
ويستدل الباحثون والعلماء في هذا الشأن على منزلة واهمية الارادة، بان لولاها لما كان الله تعالى يوقف الانسان يوم القيامة للحساب والعقاب، ولما كانت معادلة الثواب والعقاب. بل اذا كان مثل الريشة في مهبّ الريح فانه يكون حاله كسائر الحيوانات والنباتات تولد وتظهر الى الوجود ثم تموت وتختفي وكأن شيئاً لم يكن.
ان غياب هذه الحقيقة من منهج تفكيرنا - للاسف الشديد – هو الذي سلبنا قوتنا ومنعتنا أمام القوى الاخرى في العالم وجعلنا لقمة للطامعين، وهو الذي جلعنا بحاجة الى الاخرين في كل شيء.
التكتلات ثقافة مسؤولة
عرفنا احد اسباب التفرقة والتمزق في الأمة، وهو غياب الفكر المسؤول وما يعزز هذا الفكر الرسالي في النفوس من قوة الارادة التي منحها الله تعالى للانسان، وفي مرحلة اخرى نجدنا بحاجة الى آلية او تطبيق عملي للفكر المسؤول في المجتمع. الخطوة الاولى تبدأ من ايجاد التكتلات الايمانية التي تعني ان الانسان المؤمن لايعيش في قوقعته وحدوده الضيقة، وهذا ما يحذرنا منه أمير المؤمنين (عليه السلام): (والزموا السواد الأعظم فان يد الله على الجماعة، وإياكم والفرقة، فان الشاذَّ من الناس للشيطان، كما أن الشاذّة من الغنم للذئب). (بحار الأنوار / ج 68 - ص 289)، إذن؛ علينا ان نجتمع في اطار تجمعات وهيئات ولجان تعمل في مهام وأدوار يحتاج اليها الفرد والمجتمع، علماً ان القرآن الكريم يخاطبنا دائما بصيغة الجمع كقوله: "الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" (الرعد / 29) وقوله: "وَارْكَعُوا مَعَ الْرَّاكِعِينَ" (البقرة / 43) وقوله : "أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (يونس / 62)، وهنالك مفردات في القرآن الكريم تبين الدعوة السماوية الى نبذ الفرقة والتفرّد، مثل (حزب) أو (جند) أو (طائفة) أو (شيعة).
وعندما تتشكل لدينا تكتلات وتجمعات وفرق. لابد ان يحكمها قانون للتعاون والتضامن، كما يقول تعالى: "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا" (الحجرات / 13). هذا القانون ينظم العلاقة بين اعضاء تلك التجمعات والتكتلات. وبمزيد من هذا العمل سوف نستطيع ان نشكل الوحدة، واذا ما شكلنا الوحدة حينئذ اذا يقع حادث معين في منطقة ما فانه سيسري في تلك التكتلات كمثل الموج. فانت - مثلاً - اذا أخذت حصاة ورميتها في البحر ترى ان الدوائر سوف تتسع، وهكذا عندما تقع حادثة في الأمة الواحدة فانها ستتموج في جميع المناطق.
من هنا نفهم الحاجة الى الوحدة التي هي تشبه الى حد كبير الصحة والعافية في الجسد؛ فاذا قلنا (فلانا... يتمتع بالصحة والعافية) فهذا يعني ان عينه باصرة، واذنه سميعة، ويده تعمل، ورجله تسعى، وقلبه ينبض باستمرار... وكل اعضاء جسده سليمة. وإذن؛ فان العافية لايمكن ان تصدق على جسم متهاوٍ، وعين عمياء، ويد شلاء، ورجل عرجاء ؛ اي ان الجسم من هذا النوع لا يمكن ان يوصف بانه جسم متعاف. وهكذا الحال بالنسبة الى الأمة الواحدة ؛ اي لابد ان تكون في هذه الأمة عشرات الشروط والعوامل لكي تكون أمة واحدة، ذات هدف واحد، وستراتيجية واحدة، واُفق وتطلع واحد يسعى بذمتها ادناها، وتكون كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى كما جاء وصف المؤمنين في حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.
أما اليوم فالحقيقة اننا كأمة اسلامية نرى جسمنا يتقطع من اطرافه دون ان نشعر بالالم! ربما ننتظر ان يصل السكين الى عظامنا. فترانا منشغلين في التوافه والشعارات والاسماء والمغانم والمكاسب. وبصورة عامة فاننا نعيش حالة غريبة ما انزل الله تعالى بها من سلطان. لذا علينا اليوم العودة الى الوحدة الحقيقية، التي تعني ذلك الصرح المتكامل، وتلك العوامل التي تجعل الأمة سليمة متعافية ونقية، أمة ليس فيها محل للغش، والاختلاف، والغيبة، والنميمة. أمة الفكر المسؤول أساسها. فعندما تكون هذه الفيروسات غير موجودة في الأمة نستطيع ان نصفها بانها أمة واحدة وايضاً واعدة، تدعو الى الخير، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.
|
|