إحياء النفوس
|
*عقيلة آل حريز
كثيرا ما يصطدم الإنسان بمشاكل الحياة ومتاعبها وعندما تستمر هذه الصدمات بدون بدائل عاطفية تمتصها فإنها بالتالي تؤدي إلى امتصاص رحيق الحياة من نفسه، فيذوي كما تذوي النبتة الصغيرة تحت وهج الشمس فيبقى صاحبها هيكلا بلا روح وبلا حياة، فيزهد في كل شئ، المطعم والمشرب ومباهج الحياة، و إذا لم يحصل على العاطفة أو الحنان تصبح نظرته للحياة سلبية ومأساوية ويكون بعدها مهيئاً لان يكون ضحية الأمراض النفسية والاجتماعية بلا رحمة، وبالتالي يصعب عليه التكيف مع مجتمعه بسهولة. ونحن لا نستطيع الإدعاء بأن أحد منا يكاد يخلو من هذه الصدمات فجميعنا شعر بواحدة إن لم يكن أكثر منها.
تقول الآية الكريمة: "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً" فهل اختبر أحدنا يوماً شعوره حين كان يروي عطش إنسان أو حيوان أو حتى نبات ذابل، فتحيى فيه نضارة الحياة وإشراقها على يديه؟ وهل جرب أن يحيي الأمل في نفس ذاقت ويلات اليأس وتجرعت مرارة الألم والشقاء ؟
إن إحياء النفوس ليس أقل أهمية من سقي إنسان أو ري حيوان أو حتى نبات... ولكن كيف يتم إحياء النفوس... ؟ وهل تموت النفوس ليتم إحياؤها...؟
الصدق... الأمل... الخير... الِبشر (أو طلاقة الوجه)، كلها معاني راقية تعمل عملا مؤثراً في نفس الإنسان ومن يمتلكها فكأنما امتلك تلك العصا السحرية التي تحيل الانقاض إلى صرح شامخ، والارض من بوار إلى واحات خضراء.
عندما تفيض القلوب الكبيرة بأروع معاني الإخاء والإنسانية، وحين يلجأ إليها صديق أو أخ متعب من هموم الحياة ومطالبها، وقع في محنة كبرى لم يقو على تحملها وحده، طالباً منها النصح و الاستشارة. و عندما تمسح عبوس وجهه المتعب بابتسامة مشرقة... وتضيء سواد دربه بأمل واعد. تشجعه بكلمة أو معنى رمزي ليواصل حياته بثقة من جديد. ربما يصل إلى هدفه ويقوم بإنجاز عمل مهم بعد أن رمى بشيء من أحماله الثقيلة وتخلص من بعض ما كان يعانيه كاهله من ثقل ولو بمجرد الاستماع وحده، تكون بذلك قد استطاعت أن تحيي الأمل فيه من جديد. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (من سّّر مؤمنا فقد سرني ومن سرني فقد سرّّ الله). وقال الإمام الباقر عليه السلام: (تبسم الرجل في وجه أخيه حسنة وصرفه القذى عنه حسنة وما عبد الله بشيء أحب إليه من إدخال السرور على المؤمن).
هذا فضلاً عن الفائدة التي تعود علينا نحن من ذلك. فالعلاقات الإنسانية الشفافة وسيلة لكمال الذات وهي سلّم الوصول للخالق ونيل رضاء الله تعالى ونحن بحاجة إليها لبناء مجتمعنا وضمان استمراريته وإخراجه بالشكل الذي يُرضينا .
إن عملية إحياء النفوس ملكة عظيمة أودعها الله في تلك القلوب النيرة التي خلقت من أنوار الرحمة وعجنت بأسمى درجات المعاني الإنسانية الرائعة. فاستطاعت تهذيب روحها وامتصاص ذاتيتها أمام الآخرين بإخراجهم من دائرة الحزن والألم، وبالتالي لا يملك المرء غير الاعتراف بفضلها والانحناء احتراماً وتقديرا لها.
إن أصحاب هذه الملكة اتخذوا من العظماء قدوة لهم، ومن يمكنه أن يكون أعظم من الرسول الكريم محمد قدوة له. حيث امتدحه المولى في كتابه العزيز بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقوله تعالى: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ).
ولا يتصور البعض بأن التحلي بها أمر متعذر الوصول اليه. فهي حقا ملكة روحانية لكنها قابلة لتّشكل لدينا ما إذا خلعنا رداء الأنانية ورمينا جانباً بكل الصفات السلبية التي تعيقنا عنها، كالتكبر والغرور والأنانية والسلبية وحب الذات بشكل مفرط، وجعلنا عملنا خالصا لوجهه تعالى لتكون نياتنا صادقة وضمائرنا صافية تجاه بعضنا فاهتم كلٌ منا بشأن الآخر والسؤال عنه، وأعطاه جزءاً بسيط من اهتمامه، بقدر حاجته للتعبير عن نفسه، والإصغاء لمشاكله وبذل جهد بسيط لمساعدته في تخطي الأزمات. وبصراحة فإنها لا تتطلب سوى القليل.
فكيف سيكون حالنا لو تبادلنا هذه الأدوار واهتم كل منا بشأن الآخر بتخفيف آلامه ومسح جراحه ولو بحسن الإصغاء فقط...؟ أظن أن مكاتب الخدمة الاجتماعية وعيادات الأطباء النفسيين سوف تتجه لإغلاق عياداتها ومكاتبها وتبدأ البحث عن عمل آخر تقتات منه! لأن المجتمع ببساطة قد وصل إلى حالة من الشفافية والإنسانية بحيث يمكنه الاستغناء عنهم.
لو استطعت أن تفعل شيئاً لهذه النفس لشعرت بروعة أن يصل هذا الإنسان بسفينته إلى شاطئ الأمان ويتذكر بأن لك اليد الفضلى في وصوله مهما طالت الأيام .ونفسياً ستكسب الكثير من الشعور بالاستقرار والرحمة والرضا الذاتي عن نفسك لما بذلته. بالإضافة إلى كون هذا الأمر وسيلة للرضا الإلهي، كما أنه يعلم الإنسان التأمل والتبحر في نفوس البشر ومعرفة طرق مختلفة للتعامل معهم، نابعة من قوله تعالى: "وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا". وبذلك لا يمكننا أن نجزم بأن جميع البشر لهم طور واحد أو أن طباعهم ذات صياغة لقالب موحد.
إذاً... فمرحى لكل نفس نبيلة انتهجت لها طريقاً واضحاً في الحياة لا تحيد عنه أو تميل وانحناءة احترام عظيمة لكل نفس استطاعت أن تجلو درن نفسها وقيحها وتسمو بأخلاقها لتداوي صدور الآخرين .
*كاتبة و قاصة من السعودية
|
|