المجتمع الحيّ يولّد الثقافة الناهضة
|
*كريم الموسوي
جدل قديم ومتجدد بين علماء الاجتماع والفلاسفة، حول دور الثقافة في حياة الأمم، أهو دور التابع أم المتبوع؟
يقول علماء الاجتماع: إن تطورات الحياة خاضعة لسفن تقودها بصفة حتمية من مرحلة إلى أخرى، وفي كل مرحلة تخضع جميع مناحي الحياة ومنها الثقافة لمجموعة سفن خاضعة لاستراتيجية المرحلة بصورة حتمية، فالثقافة عند الاجتماعيين بمنزلة النجوم التي تدور في فلك السفن الاجتماعية المحتومة.
ويذهب الشاعر العربي الى هذه الفكرة حينما يقول :
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجدّ واللعب
فالسيف عند شاعرنا أبي تمام لا يعدو أن يكون علامة لظاهرة اجتماعية هي الحرب، وهو الذي يحدد وجهة الثقافة التي تتمثل في الكتاب.
وكذلك الفلسفة، يعتقد علماء الاجتماع انها من الافرازات الاجتماعية التي تدل على مرحلة معينة، وهي من أدوار المجتمع مثلا؛ فلسفة الثورة في أوربا، فهي لم تكن سوى ظاهرة واحدة من ملامح القرن الثامن عشر لمجتمع الثورة. . الذي أفرز هذه الظاهرة.
هكذا يعطي الاجتماعيون الاهمية للاجتماع بينما يجر الفلاسفة نار الاهمية الى قرصهم فيقولون ان العامل الحاسم في حياة الشعوب انما هي ثقافتهم، فهي التي تحدد وجهة المجتمعات، وتصبغها بلون الثورة أو الجمود، العلم أو التقليد، الحضارة أو التخلف.
يقولون: إن المجتمع ليس سوى افراد، ويستنتجون وجود الثقافة لدى هؤلاء، في انهم يديرون شؤونهم بارادتهم ثم يقع بينهم الاختلاف في الارادة، وهذه دلالة على وجود الثقافات المختلفة. إذاً؛ فالثقافة رائدة الحياة وهكذا يختلف الرأي في أن الثقافة هي التي تقود حياة الأمم أم سفن الاجتماع ؟
وقد تنامى الشعور بخطورة دور السفن الاجتماعية في قيادة الثقافة وتوجيهها في العصر الحديث، حتى تسنّم علم الاجتماع بفروعه العديدة قمة العلوم الحديثة. ولكن بالرغم من ذلك فان أنصار الثقافة لا يزالون يتمتعون بنفوذ واسع في الاوساط العلمية.
وخطورة هذا الجدل يأتي من ارتباطه المباشر بقضايا الامم المصيرية، سواء كانت متقدمة أو متخلفة. فالشعوب المتخلفة لا تفكر بالتقدم الا ويصدها هذا السؤال : ما هو العامل الحاسم في تقدم الامم، الثقافة الحية أم السفن الاجتماعية القوية، فإذا كانت الاولى بدأنا بها وإن كانت الاخرى فلابد من إنتظار أمرها ؟
بينما الشعوب المتقدمة تخشى التخلف وتفكر في تجنب الموجبات النهائية له.
والواقع: أن الثقافة رائدة ووليدة فهناك ثقافة رائدة تفجر طاقات الإنسان، وتبعثه مجتمعا حيا نشيطا، وهناك ثقافة تولد مع هذا الانفجار كواحدة من افرازاتها العديدة وهذه ثقافة وليدة حياتها مرتبطة بحياة المجتمع وطاقاتها محدودة بقدرة الأمة.
وتسود هذه الثقافة الوليدة ما تسود افرازات المجتمع من سنن مقضية أبرزها سنة التناقض الطبيعي، الذي تتعرض له كل إفرازات المجتمع، كلما بعدت عنها اشتد الانفجار الاول، كالشمس حينما تتربع السماء تكون أشعتها أكثر دفئا وأشد ضياء عما اذا آلت إلى المغيب، كذلك المجتمع ساعة إنطلاقه تكون ثقافته الوليدة أبهى واسمى من ساعات انهياره.
وفي تاريخنا الاسلامي تبدأ أمتنا في ساعة نزول القرآن الحكيم، حيث كانت ساعة الانفجار الضخم، وكانت شمسنا في رابعة السماء. بل ان الثقافة القرآنية كانت هي السائدة والرائدة وهي التي ولدتنا وبالتالي كانت فكرة الحضارة التي فجرت طاقات الإنسان في الجزيرة العربية.
وإشعاع هذه الثقافة تمثل في ثقافة الجيل الاول الذي تلقى الوحي من مهبطه الصافي، وبالرغم من سمو ثقافة الجيل الاول، فانها كانت وليدة المجتمع الاسلامي ومن موحياته الخيرة. وحينما هبطت الحياة الاجتماعية. هبط معها مستوى الثقافة الوليدة المستوحاة منه وتمثلت في ثقافة أمية انطبعت بطابع الحياة الاجتماعية تماماً.
و بهذا نستطيع تقسيم الثقافة الى نوعين: الاول، ما تولد الحضارة، والثاني ما يتولد منها، ويرتبط في مسيرته مسيرة الحضارة وهي واحدة من افرازاته المختلفة. وعلى الامم الناهضة التفتيش عن الثقافة الرائدة، لتوظيفها في حياتها حتى تستطيع ان تقوم بدور الديناميت لتفجير طاقات الانسان الحضارية.
|
|