من أجل رؤية حركية صائبة للقيادة الربانية
|
*عباس عبد الخالق
ما يميزنا نحن الشيعة الاثني عشرية عن غيرنا من المسلمين، أننا نعد أمر قيادة الناس والحكم فيهم عائداً لله سبحانه وتعالى، لأنه ربهم وخالقهم والأعرف بمصالحهم والأنظر لشؤونهم، وقد قال جل وعلا: (إن الحكم إلا لله). أما الأنبياء والمرسلون سلام الله عليهم؛ فهم خلفاء لله تعالى في أرضه وعلى عباده، وقد عصمهم عن الخطأ، ومن الخطأ خروجهم على إرادته المقدسة. فهم مجعولون بجعل إلهي، ومنصّبون ضمن بعثة ربانية ليبشروا الناس برحمة الله، وينذروهم عذابه، وليديروا شؤونهم ويعلموهم معالم وتفاصيل دينه. ومن بعد الأنبياء، من حيث الترتيب المنطقي خلفاؤهم وأوصياؤهم وأسباطهم والأئمة الذين يلونهم، فشرعيتهم مستمدة من شرعية النبي الذي يخلفهم في أمته، وشرعية النبي مستمدة بدورها من حكومة الله على عباده.
كما أننا نؤمن بأن منصب الإمامة الخاص بخلفاء نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله، أعلى من مقام سائر الأنبياء عليهم السلام، وآية ذلك، أن النبي إبراهيم عليه السلام الذي هو أفضل الأنبياء بعد نبينا، قد تحققت له الأفضلية هذه بعد العديد من الإمتحانات والابتلاءات، حتى ابتلاه ربه المتعال بكلمات فأتمهنّ عليه، وهذه الكلمات هي خلاصة معرفته بمقام النبي المصطفى ومراتب الأئمة المعصومين عليهم السلام من بعده، فهو حيث أتمهن، توصل إلى أعلى درجات المعرفة بشأنهم.. ولذلك أصبح جديراً بأن يجعله الله تعالى إماماً وإمامته هذه أعلى مرتبةً من نبوته.
أما نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله، فهو النبي الوحيد من الأنبياء الذي جمع الله تعالى له النبوة والإمامة منذ البداية، وجعله أفضل الأنبياء على الإطلاق وأفضل الأئمة عموماً، ولذلك كان سيّد أهل البيت عليهم السلام.
وحيث الأيام لاتسير وفق مدار دائم، وحيث الحكمة الربانية في الخليقة تتعدد أشكالها، فإنه كان مقدراً أن تكون الغيبة للإمام الثاني عشر بعد رسول الله، وهو إمام زماننا صلوات الله عليه وعلى آبائه.. فأضحى انتفاع الناس به اثناء الغيبة كالانتفاع من الشمس حيث تحجبها الغيوم. وكان لابد له من وكلاء خاصين في بداية الغيب؛ تأهيلاً للناس، وعامين لدى تعاقب الأيام، حتى يأذن الله تعالى له بالظهور التام، وفق اسرار يعلمها وحده لاشريك له.
وليست الغيبة مما يمكن الاستهانة بها والاستشكال عليها، إذ كثير من حجج الله على عباده وأنبيائه في خلقه كانت لهم غيبات وغيبات وبقوا مجهولين للناس حتى أذن الله سبحانه لهم بالظهور والإعلان عن أنفسهم وعن نبوتهم ورسالتهم.. مثل إبراهيم وموسى والخضر ويوسف عليهم السلام وغيرهم، ولكل واحدة من غيباتهم حكمة ربانية منها المعروفة للناس، ومنها التي بقيت مجهولة حتى عصرنا الحاضر.
والمهم بالنسبة لنا. أن أمر قيادة المؤمنين في عصر الغيبة هو في الواقع نوع من النيابة منوطة لعلماء وفقهاء يصطفيهم الإمام الغائب بنفسه ضمن مواصفات ومؤهلات، طالما شرحها وبينها للناس، كما أوضحها غيره من الأئمة آبائه وأجداده من قبل.
هذه الصفات والمؤهلات، ليست بالسرية أبداً بل هي صفات ومؤهلات ترقى إلى مستوى السير ضمن طريق التكامل، كتحقق الدرجات العلى من الخوف من الله تعالى، والمحافظة على الدين، وأسمى مراتب الطاعة لله عزوجل.
ومن هنا؛ كان لزاماً وحتماً على غير العلماء وغير المتفقهين بأمور الدين وتفاصيل أحكامه أن يحذوا حذو الفقهاء ويسلموا لهم مقاليد دينهم لأنهم أعرف بها منهم، شأنهم في ذلك شأن أي مريض يحتاج إلى متخصص بأمر الطب ليحدد له مرضه ويصف له علاجه وشأنه شأن أي راغب في بناء بيت، أن يرجع إلى مهندس يضع له خارطة هندسية لبناء ذلك البيت. بمعنى أن أمر الدين أمر تخصصي لايسمح للجاهل وغير البالغ مرتبة الفقاهة والإجتهاد أن يتدخل في وصفه والتحدث في تفاصيله.
وحيث أن الدين الإسلامي هو الدين الذي جعله الله تعالى سبيلا لمرضاته، ومقياساً لقبوله أعمال عباده، فإن العلماء بأحكامه والفقهاء بتفاصيله، هم وفق تفويض الإمام المعصوم يكونون بمنزلة الوسيلة للناس إلى الخالق سبحانه وتعالى.
وعلى هذا وغيره من التفاصيل يكون محرما على شخص من الاشخاص ولاسيما أفراد المذهب الشيعي الاثني عشري أن يتصدوا إلى مقام الفتوى وقيادة الناس ماداموا غير مؤهلين للتحدث باسم الدين وباسم النبي والإمام. لأن التدخل والفضول في أمر الدين وقيادة العباد ينطوي على مخاطر الوقوع في الأخطاء الجسيمة والتحريف الذي تكون له ابعاد واسعة يصعب تصحيحها.
ولايختلف أمر الممنوعية والتحريم هذا حيال الشخص المحكوم أو الشخص الحاكم، والشخص القيادي في الحزب أو أعضائه، والتاجر والعامل والمعلم أو التلميذ وغيرهم من الأفراد والشرائح الإجتماعية، مما يستدعي في نهاية المطاف إلى إيمان الجميع برجوع الجميع إلى العالم الجامع لشرائط الفتوى، ليكون ذلك تكريساً لحكمة قيادته للأمة.
أما من يعتبر نفسه شيعياً إثني عشرياً، ثم يؤسس لنفسه حزباً أو تكتلاً ما، ويسعى إلى قيادة الناس وإصدار الأوامر والنواهي لأعضاء حزبه وتكتّله، بعيداً عن إرادة الفقيه المرجع، أو يحاول جرّ المرجع لأن يكون ذراعاً من أذرع الحزب والتكتل كما هو حاصل لدى البعض مع بالغ الأسف، عليه أن يراجع نفسه ويتحقق من طبيعة انتمائه لأهل البيت عليهم السلام.
بلى... إن الحزب الذي يؤكد على قيادته بنفسه، بمنأى عن قيادة الفقيه المرجع. إنما منشأ تأكيده هذا، نابع عن نظرته إلى منزلة الإمام المعصوم، متأثراً بالفكر المنحرف تجاه النبي، حيث يؤكد هذا الفكر على عصمة النبي في تبليغ الرسالة والآيات فحسب، واحتمال وقوع الخطأ منه في مجريات حياته وممارساته اليومية، شأنه في ذلك؛ شأن سائر الناس الخطّائين!
وهذا النمط من التفكير والإيمان المختلق، ترك كل الأثر في طبيعه تفكير وإيمان الحزب الذي يعتبر نفسه شيعياً، ويحسب نفسه على أهل البيت عليهم السلام، حتى أنه يتصورهم مجرد أشخاص لهم كرامة يمكن الوصول لها، وأنهم أئمة وعبادٌ صالحون لا أكثر. ولكن هذا التفكير يغفل أو يتغافل عن أن التراث والتاريخ الذي حدا بهم إلى القول بإمامة أهل البيت عليهم السلام، هو نفسه الموروث القائل بأن أهل البيت أنوار إلهية لايمكن أن يقاس الناس بهم، لما أضفى عليهم الرب الكريم من الكرامة والقدسية، حتى وصفوا أنفسهم قائلين: (نزهونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم).
وعليه؛ فإنه ليس أمام الإنسان الشيعي إلا التسليم بوعي إلى حقيقة أهل البيت عليهم السلام ونهجهم ورؤيتهم الربانية في القيادة وأن لايسمح لنفسه بالتجاوز عن صلاحيات الفقيه المرجع، وعلى مكانته المقدسة، والتجرؤ على الفتاوى التي يصدرها.
|
|