صدى الإبداع في (الصدى)
|
علي حسين يوسف
تجذرت في سحيقِ الحزنِ هامتهُ وظلَّ يشربُ من أوجاعها المطرا
وبين الحزن المعاش والموت المرتقب قد يكون الإبداع وقد يكون اليأس وفقدان الأمل، أما محمد طاهر محمد فقد اختار الإبداع بالرغم من عدم اطمئنانه لطرفي المعادلة.
في مجموعته الشعرية (صدى) نقرأ نفْساً تكاد تزهق في كل لحظة وفي ثنايا الكلمات نسمع أنيناً لا يحسبه الذي يقرأ للشاعر محمد طاهر بتفاؤله أنه صادر منه، حيث يظهر صوت الحزن واضحاً حتى كأن شاعرنا يتكئ على آلامه ليكتب كلماته، أو أن كلماته تعبير لحزن دفين كلما أراد أن يختفي خلف الموسيقى الشعرية أظهره الشاعر وكأنه مجبول على تعاطي مفردات الألم والغربة مثل قوله: (فكفكف ليلنا دمعاً شهيداً) وقوله: (وأدت منه ثلاثيناً بمقبرتي) وقوله: (تيقن في نفسه، أنه بكى حينما رأى.... نهراً يصبُّ فيه جراحه) وقوله: (وتترع بالبؤس كأس الهوى) وقوله: (وماتت غصون وجفّت دماء) وقوله: (الموت يتلو في شهيقي سفره) وحتى العناوين التي صدّر بها الشاعر قصائده لم تخرج عن إطار الحزن والغربة نحو: إبحار، وبكاء الصحراء، رحيل، احتضار، الحلم الذبيح، سراب، نزيف، أرق، آهات العصور، تمرد.
فإذا عرفنا بأن عدد قصائد المجموعة ست عشرة قصيدة تبين لنا الى أي مدى ينهل الشاعر من لغة المعاناة، فهل هي معاناة الشعر ومخاضاته أم معاناة الوجود الذي يشكل المعادل الموضوعي لأنا الشاعر؟...
أم أن الشعر عند محمد طاهر تحوّل الى تجربة وجود فعاشه بكل ما يملك؟ ربما لا نجد أجوبة في قصائد المجموعة بوصفها مسكونة بهاجس المعاناة مما يجعل القارئ يدور في دائرة مغلقة، الى الحد الذي نجد الشاعر حتى في لحظات انفلاته من حزنه يحن الى العودة إليه بأي وجه من الوجوه.
ففي إحدى قصائد مجموعته نجد نفساً متفائلاً وروحاً مشرقة وألفاظاً ذات دلالات بهيجة، مثل: (كن أجمل الأحلام، كن شاطئاً، كن أجمل الألوان، كن نغمة، كن نجمة، كن زورق الأحلام، كن زقزقات الطير، كن بلسماً) لكن الشاعر وبالرغم من ذلك لم يستطع التخلص من طابع التشاؤم فكان أن وقّع القصيدة بعنوان (رحيل) ما جعل القصيدة غير متوافقة مع العنوان، فالرحيل يقترن دائماً بالحزن والألم والمعاناة وحتى الموت، اللهم إلا إذا كان الشاعر يريد الرحيل الى عالم الموت بنفس متفائلة، وإن الضمير في الفعل (كن) الذت تكرر عشرين مرة لا يعود الى الشاعر بل الى شخص آخر افتقده وفي كل الأحوال فإن القصيدة تكاد تخلو من أية دلالة للحزن سوى العنوان إذا سمحنا لأنفسنا بأن يكون جزءاً منها.
أما الصورة الشعرية في مجموعة (الصدى) فقد كان لها حضور واضح لكن الأوضح من ذلك أن الشاعر يميل في أغلبها الى الصور المجردة وهو ما يحسب للشاعر نحو قوله: (فغطى الظلام خطى القاتلين) كما نجد لدى الشاعر صوراً تدلّ على شاعرية فيّاضة نحو قوله:
أنا مذ وعيت الشمس تلهب طينتي أوحت إليَّ الأرض صوت الناعي
أما الموسيقى الشعرية فكانت واضحة التأثير ومنسجمة مع الألفاظ وفيما يخص القوافي فإن الشاعر اعتمد اعتماداً كبيراً على القوافي المُشبعة بحروف المد نحو: (إهابا، رضابا، مشابا، أوجاعي، الناعي، ترابي، أمانيا، احساسا.... إلخ) وقد يدل ذلك على حاجة الشاعر لبث أحاسيسه وكأن حروف المد تنفس عما يعتلج في صدره.
وبالعودة الى الموسيقى الشعرية نجد أن الشاعر استعمل من الأوزان ما كثر استعماله مثل: (البسيط والكامل والمتقارب والطويل والسريع والخفيف لكنه كان أميل الى بحر الكامل لما فيه من حركات كثيرة ساعدت الشاعر على التحرك في مساحة شعرية أوسع وقد استعمل مجزوء الرمل في قصيدته (ابني علي... نبوءتي) بالرغم من أن العنوان كان موزوناً على تفعيلة البسيط (مستفعلن/ متفعلن) أما إسلوب الشاعر في النظم فكان يرقُّ أحياناً حتى تكاد الكلمات تطفح بالأحاسيس نحو قول الشاعر (سار جرحي مكبّلاً باحتضاري). أما المعجم الشعري الذي نهل منه الشاعر فكان منوّعاً فقد كان ميّالاً الى استعمال الألفاظ المأنوسة لكنه قد يتصرف بهذه الألفاظ بطريقة قد لا ترضي أهل اللغة مثل جمع زمان على أزمن وهو غير شائع والمعروف أزمنة وجمع وباء على أوباء وهو غير شائع أيضاً والأحسن أوبئة وقد يلجأ الشاعر الى الغريب كقوله: (فرفّ لي أملٌ يستاف أوراساً). أما سلامة اللغة عند الشاعر في هذه المجموعة فقد كانت تدل على سابقة نحوية جيدة.
ولا بد من الإشارة الى أن في المجموعة قصائد وأبياتاً تنم عن احساس مرهف ورقة في الإسلوب وجزالة في التعبير وترتيب في الأفكار كما نجد في قصيدة (بكاء الصحراء) التي غاب فيها ضمير (أنا) الشاعر مما زادها إيحاء وجمالاً
|
|