تجلّى الله للجبل ولم يتجلّ للإنسان
|
*طاهر القزويني
كيف تنظر إلى الجبال الراسيات؟!
ربما تقول ما قيمة هذا الأمر حتى أعطيه كل هذا الاهتمام، وما الفائدة من قراءة موضوع حول الجبال؟!
بالطبع إذا كانت نظرتنا إلى الجبال نظرة محدودة وسطحية بلا شك ستكون عديمة الفائدة لكننا لو نظرنا إلى الجبال كما طلب الله عزوجل منّا ذلك فقد تكون نظرتنا مختلفة، إذ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ" (الغاشية/17-19).
تعالوا لنسأل الماديين والملحدين، كيف انتصبت هذه الجبال بهذه العظمة والشموخ؟
انهم عاجزون عن الاجابة عن هذا السؤال وعن عشرات الأسئلة الأخرى.
بينما يحدثنا الله سبحانه عن حقيقة هذه الجبال، وكيف وجدت؟ وكيف نصبت على الأرض؟ وما هي فوائدها؟!
وفي وقت كان الجهل مطبقاً على البشرية، تحدث الباري عزوجل عن أشياء قد اكتشفها العلم الحديث مؤخراً وهي حركة الجبال، ولابد أن هذا الموضوع لايمكن أن يصدر إلا عن عالم بحقيقة الكون والخلق، فالقرآن الكريم يقول "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ" (النمل/ 88).
فالتصور البشري البسيط يقول بأن الجبال غير متحركة، وإذا أتى رجل في عهد النبي (ص) وحتى فيما بعده وقال أن الجبال متحركة، كانوا سيسخرون منه ويعدوه مجنوناً، لكن الله العزيز خاطب في قرآنه عقول أناس سيأتون إلى هذه الدنيا في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين ليكتشفوا وسط الثورة العلمية الكبرى عظمة القرآن الكريم.
لكن للأسف فإن البشر لايفهمون الإسلام ولايفهمون القرآن الكريم بقدر ما تفهمها الجبال، ونحن نلاحظ اليوم التفسيرات الخاطئة للدين، من جانب أناس يعدون أنفسهم مسلمين بل دعاة للدين، والدين من أفكارهم براء وأكبر دليل على فهم الجبال للقرآن أكثر من بعض المسلمين هذه الآية الشريفة "لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الحشر/ 21) فالجبال تخشع لنزول القرآن الكريم عليها ونحن نقرء القرآن ولاتخشع قلوبنا، هل لدى الجبال قلوب تخشع بها؟
نحن لانعلم إلا القليل عن الكائنات، لكن الله سبحانه يدهشنا بهذا القليل الذي يعلمنا فيه عن عالم الحيوان أو النبات أو حتى الجبال، ففضلاً عن ما قلنا من حالة الخشوع التي تصيب الجبال فهناك مرتبة أعلى من ذلك وهي التعقل وإدراك الأمور الصعبة التي لايدركها حتى الإنسان، إن الجبال تدرك اشياءً لايدركها الإنسان! فكيف يحدث ذلك؟
الله سبحانه وتعالى هو الذي ذكر ذلك في الآية الكريمة "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الأحزاب/ 72) وإذا كان الإنسان في هذه الآية ظلوماً جهولاً فأن الأرض والجبال لم تكن ظلومةً جهولة، ذلك أنها اختارت الطريق الأسلم والأفضل لها، بينما لم يختر الإنسان إلا ما يضره في آخر المطاف، ذلك أنه لم يستطع أن يحمل تلك الأمانة التي وعد الله عزوجل بحملها.
ومع إن الجبال غير مكلفة بتأدية الواجبات كما هي حالة الإنسان التي يفرض عليه القيام بها إلا إن هذه الجبال تذكر الله وتسبحه وتؤدي ما عليها من واجبات أخرى يأمرها بها عزوجل، فهو سبحانه يقول "إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ" (ص/ 18) ففضلاً عن تسبيحها في العشي والإشراق وقليلاً ما يقوم بها بنو البشر فإنها فضلا عن ذلك تعمل بما يأمرها الله عزوجل من أعمال وخدمات تقدمها للحياة وبين البشر.
وتقدم الجبال خدمات كثيرة لبني الإنسان وعالم الحيوان وقد ذكر الله عزوجل بعضها في كتابه ومنها على سبيل المثال "تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا" (الأعراف/ 74) "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا" (النحل/ 68) فضلاً عن آيات أخرى تبين دور الجبال في خلق نوع من التوازن على كوكب الأرض، وهنالك آيات تتحدث عن عبادة الجبال لله عزوجل هي الآيات التي يجب أن تثير عقل الإنسان وتدفعه إلى التفكير في نفسه وحاله ويسأل نفسه ويقول: هل أنا أعبد الله بقدر عبادة الجبال؟! وهل أسجد لله بمثل سجود الجبال؟! يقول عزوجل: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ" (الحـج/ 18).
وأصبح الجبل المثل والعبرة للإنسان المغرور والمتكبر، فإذا ارادوا نصيحة أحدهم بأن لايغتر بما لديه من زينة الدنيا فيقولون له أنك لن تبلغ الجبال شموخاً وعظمة وطولاً، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: "إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً" (الإسراء/ 37).
هذا الشموخ وهذه العظمة هي التي أثارت التساؤل لدى المؤمنين ماذا سيحلّ بها يوم تحين القيامة؟ "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا" (طـه/ 105). ومثلما أصبحت الجبال مثلاً للشموخ والعظمة، إتخذها الله عزوجل في هذه الآيات الأخريات مثلاً للتلاشي والانهيار أمام عظمة الله عزوجل، ولابد أن يكون هذا الأمر مثار تفكر الإنسان، حيث إنه كان على مر الزمان ينظر إلى الجبال نظرة إجلال وإكبار، ويتغنى بها في أشعاره ويصفها بالشموخ والعظمة وفجأة تتحول إلى مثل أعلى للتلاشي كما في بعض الآيات "إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا* وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا" (الواقعة /4-5)، "تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً" (مريم/ 90) ،"يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ" (المعارج /8-9)، "وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا" (النبأ /20)، فقد أصبحت الجبال هنا مثلاً للتلاشي والسراب، فماذا سيحدث في ذلك اليوم حتى تصبح أمثلة الشموخ هي نفسها أمثلة الانحطاط والانهيار؟
|
|