ضرورة التدبّر وتبرير الهجران
|
*السيد محمود الموسوي
ماذا تقول فيمن يُعطى أسباب التقدم فلا يأخذ بها؟
وكيف تنظر لمن يُقدّم له أداة النجاح، فلا يعيرها اهتماماً؟
وبأي وصف يمكن أن تصف من يُعطى مفتاحاً للخروج من الفتن والمشكلات، فيتركه وراء ظهره؟
بلا أدنى شك ستجيب وأجيب ويجيب العقلاء كافة بأن هذا الإنسان سيخرج من دائرة العقلاء وسيدخل ضمن صنف المجانين، وهنا أتذكر ما تحدّث عنه الإمام الراحل السيد محمد بن المهدي الشيرازي (قدس سره) في أحد كتبه، يشير إلى أن من نسميهم مجانين في الواقع مبتلون، فلا يضرون إلا أنفسهم في الغالب، أما المجانين الحقيقيون فهم من يحسبون أنهم عقلاء وهم ليسوا كذلك، فهم يضرون أنفسهم ويضرون غيرهم لأنهم لم يأخذوا بأسباب التقدم والإنتصار، فيكونوا أداة من أدوات الهدم والتخلف.
نداء العقل الذي خلقه الله تعالى من نوره يكشف لنا بوضوح لا لبس فيه أنه ينبغي لنا الأخذ بأسباب التقدم وأدوات النجاح، ومفاتيح المشكلات من حولنا، وما يكون ذلك إلا بهدى القرآن الكريم، كلام الرب عز وجل لخلقه على مر العصور وفي سائر الأمكنة، "إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً"، وهو "يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ" من خلال بصائره التي يبصّر بها الناس ليمشون بها في الناس والحياة.
رسول البشرية العظيم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (ع) من بعده دعونا صراحة لأن نتمسّك بالقرآن ونلجأ إليه ليخرجنا من ظلمات الجهل والفتن إلى نور العلم ورفاهية الحياة الطيبة، كما عن الإمام الصادق (ع) عن جده رسول الله (ص): (إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل وليس بالهزل وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب ويتخلص من نشب فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)، فأي عذر يمكن أن نعتذر به بعد صراحة البيان، وصراحة الدعوة؟
هنالك تبريرات خاوية يدخل من خلالها الشيطان الرجيم لمنع نور القرآن من الوصول إلى قلب الإنسان، ومن خلالها ينسف العلاقة بينه وبين كتاب الله المجيد فيكون مهجوراً وبعيداً عن واقع هذا الإنسان، من هذه التبريرات:
1- عدم كفاية الوقت: يتعذر البعض بأنه لا يمتلك سعة من الوقت لكي يقوم بالتواصل مع القرآن الكريم، وهذا التبرير ليس له واقعية، لأننا نجد أن من يشعر بأهمية شيء، فإنه يخصص له وقتاً ويحرص على أن يهتم به، كما أن الأوقات التي تضيع من الإنسان ليست قليلة، فهو قد يجد لنفسه وقتاً طويلاً للجلوس مع أقرانه، أو لمشاهدة برامج تلفزيونية، أو ماشابه ذلك، فكيف لا يجد لنفسه وقتاً مع القرآن وهو بهذه الأهمية التي تصب في صالحه؟!
2- الإكتفاء بالتلاوة: قد يظن شخص بأن التلاوة بما لها من ثواب عظيم، وحث أهل البيت (عليهم السلام) عليها، يكفي في التواصل مع القرآن الكريم، ولكن هذه النظرة ناقصة وتحتاج إلى تتمة، فالتلاوة هي مقدمة للوصول إلى معاني القرآن ونوره إلى القلب والعقل عبر تدبر آياته والتفكّر في مضامينه، ولذلك جاء في دعاء بداية تلاوة القرآن عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (اللهم فاجعل نظري فيه عبادة، وقراءتي فيه فكراً، وفكري فيه اعتباراً واجعلني ممن اتعظ ببيان مواعظك فيه، واجتنب معاصيك، ولا تطبع عند قراءتي علي سمعي، ولا تجعل على بصري غشاوة، ولا تجعل قراءتي قراءة لا تدبر فيها بل اجعلني أتدبر آياته وأحكامه، آخذاً بشرايع دينك، ولا تجعل نظري فيه غفلة ولا قراءتي هذراً إنك أنت الرؤوف الرحيم).
3- عدم التمكّن من فهم القرآن: يأتي هذا التبرير بعدة وجوه، وكلها تقود إلى نفس الغاية، وهي نقض غرض القرآن، وحجب نوره من أن يصل إلى القلوب، فإن الله تعالى أنزل كتابه إلى الناس كافة، ولا يمكن أن ينزله عليهم ويطالبهم بالإيمان والهداية والإتعاظ به، دون أن يكون الكتاب نفسه نافذة تطل على الهداية، ودون أن يكون للإنسان القابلية والقدرة على الفهم والوصول إلى الهداية من خلاله، فالقرآن شهيداً بين يدي الرسول (ص) لينذر به الناس، "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ". وقال عز وجل: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ".
نعم... إن القرآن الكريم عميق غوره وله بطون وآفاق قد لا يفهمها إلا العلماء، ولا يفهمها كاملة إلا النبي (ص) وأهل بيته (ع)، إلا أنه من جانب آخر فيه مستويات، فبعض يفهمه عامة الناس الذين يعرفون العربية وبما لهم من فطرة سليمة، وبما لهم من العقل والادراك الذي كرمهم الله به، يمكن أن ينهلوا منه، وبعض يفهمه العلماء والأولياء، كما جاء عن أمير المؤمنين (ع): (ثم أن الله جلّ ذكره.. قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه وصحّ تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسماً لا يعرفه إلا الله وأمناؤه الراسخون في العلم).
وقال الإمام زين العابدين (ع) ببيان لا لبس فيه: (كتاب الله عز وجل على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء).
وأما عندما يقف الإنسان عند الآيات المتشابهات والتي لا يعيها ولا يصل علمه مضمونها، فلابد أن يلجأ إلى الذين يعلمون الكتاب، العلماء به، فينهل منهم ما نقص عنده، إما عبر التفاسير المكتوبة أو المنطوقة أو التعلّم عند المعلّم، فإنه (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه)، كما قال الإمام الصادق عليه السلام.
|
|