قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

تطوير الحوزات العلمية وتلبية متطلبات المرحلة
*أنور عزّالدين
لا زال يدور في خلد الكثيرين ضرورة تنظيم الحوزات العلمية وفق الاسس التي تتطلبها المرحلة الراهنة تماشياً مع تطورات العصر وتقدم الزمان . ومنذ خمسين سنة الماضية، تتردد هذه الدعوة من قبل كبار العلماء ، ولا زالت هذه الدعوة تتكرر مرات ومرات.
ومن هنا ينبغي على كل من أوتي حظاً من الحكمة، و نصيباً من العلم ان يدلي بدلوه في هذا المجال ، ويبدي خبرته وفكره ورأيه بما يتناسب وأهمية هذا الموضوع ، عسى ان يتحقق - باذن الله تعالى- بأحسن وجه.
ملاحظات في البدء
في اطار هذا الموضوع هناك عدة ملاحظات مهمة من الجدير أن تكون قاعدة لأي عملية تطوير في حوزاتنا العلمية:
1- إن الزخم العلمي الذي ضخه الاسلام في نفوس المسلمين كان قوياً، وقد اقتربت الدقة والعمق والموضوعية والتجرد والاهتمام عند علمائنا السابقين بالموضوعات العلمية من الكمال . ففقهاؤنا في الحوزات العلمية كانوا يصنعون المعاجز او ما شابهها، في معالجتهم لأدق المسائل العلمية والفلسفية والفقهية والتشريعية والاصولية (اصول الفقه) ، ومن يقارن بين الفقه الاسلامي الذي تطور على ايدي فقهائنا الاجلاء ، والفقه الغربي يجد البون الشاسع بينهما ، كما ان من يدرس علم النفس او علم الاخلاق عند علمائنا ، يدرك ان خط الغربيين في علم الاجتماع او النفس او العلوم الانسانية عموماً لا يمكن ان يبلغ خط علمائنا.
ومن هنا فان اهتمامنا بتنظيم الحوزات العلمية لا يعني ابداً الانتقاص من قيمة هذه الحوزات ، او عدم الانتباه الى دورها الكبير والفعال في تطوير العلم ، وفي الابقاء على جوهر الحضارة الاسلامية.
2- إن أهم صفة يجب أن تبرز في اوساط الحوزات العلمية ، ولابد من الابقاء عليها وتكريسها، ضرورة استقلال العلم عن المال والنفوذ والثروة. فعلماؤنا السابقون (رض) حافظوا رغم فقرهم المادي، والصعوبات الكبيرة التي كانوا يعانون منها، على استقلال العلم، فلم يمدوا ايديهم لا لمصافحة صاحب السلطة ولا لمصافحة صاحب المال، فكان عنوانهم في حياتهم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): ( اذا رأيتم العلماء على ابواب الملوك فبئس العلماء و بئس الملوك ، واذا رأيتم الملوك على ابواب العلماء فنعم الملوك ونعم العلماء) ، او قوله (صلى الله عليه وآله) (الملوك حكام على الناس ، والعلماء حكام على الملوك).
لقد نعى الفكر الغربي استقلالية العلم ، وتحسر عليها اليوم علماء اوروبا و اميركا لانهم قد فقدوها منذ زمن بعيد ، فأصبح العلم خادماً على ابواب المال والسلطان ، ومن ثم فقد اصبح في خدمة الهوى في حين ان قيمة العلم تكمن في ترويض الهوى و توجيه الانسان.
3- ان عملية تنظيم الحوزات العلمية يجب ان لا تنصب على الجوانب الفوقية والسطحية في هذه الحوزات، بل الى الجوانب الجذرية فيها بمعنى ان علينا ان نجمع بين الخصائص الاسلامية التي كانت متوفرة في الحوزات العلمية سابقاً كخصيصة الحرية ضمن إطار النظام، والتقوى ، و تركيز الاهتمام على العلم اكثر من أي شيء آخر ، ثم جمع هذه الخصائص الى جانب تكميلها بميزات العصر وحاجاته.
السبيل الى التطوير
اذا عرفنا بعض أسس التطوير في حوزاتنا العلمية، لابد لنا أن ننطلق في مسيرة التغيير نحو الأفضل على أكثر من صعيد، وذلك من خلال الخطوات العملية التالية:
أولاً: إلغاء الأنا..
نحن المسلمين بشكل عام نعيش تخلفاً سلوكيا و فكرياً ، و بتعبير آخر نعيش تخلفاً حضارياً منذ عدة قرون ، وعلى الحوزات العلمية ان تعالج هذا التخلف. ومن الوان تخلفنا تربيتنا الفردية في مقابل جماعية الحضارة التي تذوب الفرد في بوتقة الجماعة ، وينتهي فيها الأنا ليبدأ (نحن)، اما التخلف فهو على العكس من ذلك تماماً.
ففي الحوزات العلمية ينبغي ان تموت الانانيات، وان تكون هذه الحوزات بوتقة لصهر المجموعات المنتمية اليها ، فمن نذر نفسه لله يجب ان يصهر هذه المجاميع بالاهداف الواحدة ، وينبغي ان لا يكون هذا مجرد قرار أو شعار، بل ان يكون ممارسة عملية ، ففي الحوزات يجب ان تمارس السلوكيات التي تثير في الانسان الجوانب الاجتماعية كما هو الحال في المخيمات الكشفية، فقد أثبتت التجارب الحديثة إن أثر هذه المخيمات في إنماء الروح الجماعية عند الانسان كبير جداً ، فينبغي ان تكون الحوزات العلمية متجهة الى العمل والدراسة الجماعية وان ينحسر نطاق الفردية فيها .
ثانياً: السيرة المضيئة للمعصومين..
ينبغي ان يكون الاتجاه في الحوزات نحو الاتصال الاعمق والامتن بالنصوص الشرعية فنحن لا نريد ان ننتزع انفسنا من واقعنا المتخلف لنعلقها في الفراغ ، بل نريد ان ننتشلها من هذا الواقع الفاسد لنربطها بذلك الواقع الحضاري المتكامل ، وهو واقع القرآن الكريم و سيرة رسول الله والائمة الكرام (عليهم افضل الصلاة والسلام).علينا ان نتمثل سيرة نبينا (صلى الله عليه وآله) واصحابه المخلصين و سيرة ائمتنا وحوارييهم، فنستلهم هذه السيرة في حياتنا استلهاماً كاملاً ، كما علينا ان نعود الى النصوص القرآنية ونكثر من قراءتها ونحاول تفسيرها وتأويلها والاتعاظ بها ، فنجعل القرآن شعارنا ، ونعيش في واقعنا معه ، لا نتخذ منه دثاراً نتدثر به في اوقات الحاجة ، وكذلك الحال بالنسبة الى الاحاديث .
ان دراسة المتون قد اشغلت حوزاتنا عن دراسة المتون الاخرى وكأننا لسنا بحاجة الى دراسة نهج البلاغة او الصحيفة السجادية ، وكأن وصايا ائمتنا ( عليهم السلام ) و وصايا السابقين من علمائنا التي تستهدف صياغة الشخصية الاسلامية والايمانية المتكاملة لا تعنينا اساساً. لذا ينبغي ان ثلث الدراسات الحوزوية ينبغي ان تتمحور حول متون القرآن والاحاديث وتأريخ السابقين من علمائنا .
ثالثاً: اللغة العربية..
ان اللغة العربية هي لغة العالم الاسلامي ، فعلم الاسلام وفقهه كتب باللغة العربية، فلا ريب ان معرفة هذه اللغة بجميع خصائصها و آدابها يُعد أمراً ضرورياً ، ولكننا نلاحظ في بعض الحوزات العلمية اهتماماً بدراسة النحو والصرف والمعاني والبيان وما شاكل ذلك دون الاهتمام بذات اللغة العربية ، فينبغي ان نعود الى هذه بالذات ، وان يكون اتقان هذه اللغة شرطاً مسبقاً لدخول الحوزات ليدرس الطالب جميع الكتب بهذه اللغة ، واهمية هذه الملاحظة تأتي من اهمية العودة الى النصوص التي ذكرناها في الملاحظة الثالثة .
رابعاً: العلاقة بين النظرية والتطبيق..
ايجاد العلاقة بين ما يدرس في الحوزة وبين ما تتطلبه الظروف المستحدثة، فليس كل علم نافعاً ، وليس كل تعليم مطلوباً، فلابد ان نجعل الحاجات العملية، اساساً للتعلم ، فلكي نعمل علينا ان نتعلم، ولذلك يجب ان لا نتعلم الا ما ينفع عملنا.
ففي العراق اليوم - على سبيل المثال- فان الحاجة ماسّة الى القضاة لسد الفراغ الكبير في الجهاز القضائي، لكن نرى الآلاف يدرسون في الحوزات العلمية ولا يتوجه الكثير ويتخصص في مجال القضاء. في حين القاضي يمكن اختياره طبقاً للمناهج الاسلامية خلال اربع سنوات ، ولكن الامور- مع ذلك - بقيت كما كانت عليه سابقاً لان العلم لم يكن مرتبطاً بالعمل، فقد كان في واد وحاجات الناس في واد آخر، وكذلك ما يتعلق بأمر المبلغين، فان حوزاتنا لم تكن مهتمة بالتبليغ وارسال الخطباء والعلماء الى المدن والبلاد المختلفة، الا في العقود الاخيرة التي شهدت الحوزة فيها تطوراً نسبياً.
خامساً: ضرورة الاهتمام بالبحوث والدراسات العليا..
في الوقت الحاضر تعيش معظم بلادنا الاسلامية ولاسيما العراق أوضاعاً اقتصادية صعبة وهي في مرحلة مخاض سياسي واقتصادي عسير، وقد توجهت أعين العالم بأسره نحوه، فما هي خطط التنمية الاقتصادية في هذا البلد؟ ومعروف إن تحسن الاقتصاد في العراق من شأنه ان ينعكس ايجاباً على دول المنطقة، حيث تنتعش السياحة والتبادل التجاري وعلى ضوئها يمكن حلّ أهم معضلة وأزمة حقيقية خانقة وهي (الارهاب) التي تتغذى من الفقر والحرمان، لكن رغم كل ذلك لا نجد بين علمائنا من يناقش ويبحث هذا الجانب إلا القليل.
بالمقابل نرى ان اهتمامات علمائنا انصبت على مسائل فرعية ، لا تخلومن أهمية ولكنها قد اشبعت بحثاً ودراسة من قبل علمائنا السابقين كالبحث عن الحقيقة الشرعية ، واجتماع الامر والنهي ، والدلالات اللفظية وما اشبه ذلك من موضوعات اشبعت بحثاً ودراسة لا يمكن ان يضيف اليها الباحثون الجدد الا قليلاً ، في حين ان مسائل من مثل التنمية الاقتصادية، والتربية الاسلامية التي مازالت اصولها ومناهجها غير معروفة.
خامساً: الاهتمام بروح المبادرة ..
إن الذي يؤثر في الانسان هو القدوة الحسنة لا الحديث أو الموعظة : ( كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم )؛ أي بأفعالكم ، ولا ريب ان الحوزات العلمية كانت ناجحة في هذا المجال ولكن ينبغي الاهتمام اكثر، كالاهتمام بتزكية النفس والاخلاق الحسنة كالتواصي والتكافل ، وما شاكل ذلك من امور لو اهتمت الحوزات العلمية بها فان ثورة ثقافية بل موجة حضارية سوف تنبعث من تلك الاراضي المقدسة التي احتضنت الحوزات العلمية.
ومن اجل ان نقوم بذلك فاننا لسنا بحاجه الى قانون يصادق عليه احد المسؤولين بل نحن بحاجه الى ثورة تنبع من داخل الحوزات، وفي كثير من الاحيان نجد انفسنا في حاجة الى ذاتية الحركة والى روح المبادرة. بل ان الحوزات العلمية بحاجة الان الى حركة جذرية ذاتية تنبع من ضميرها ، وتسد النقائص الموجودة فيها، اما اذا انتظرنا الاخرين لكي يأتوا الى الحوزات ويصلحوها ولكن بقيمة القضاء على استقلالها ، فهذا ليس بالعلاج الجذري لان استقلال الحوزات هو أهم إرث ورثته الاجيال الحاضرة عن الاجيال السابقة من فقهائنا الابرار ( رضوان الله عليهم ).
ــــــــــ