(التفسير المسترسل) رؤية متجددة في نصٍّ ثابت
|
قراءة / د. نضير الخزرجي
تختلف قراءة النص من كاتب لآخر، وهي تخضع في معظم الحالات إلى خلفيته الثقافية، ولذلك تأتي القراءة منسجمة مع ما يحمله من ثقافة عقيدية أو عامة، ويتجلى الظهور الثقافي له في النص المقدس، إذ يخشع الكاتب في محراب النص وهو يسبح بحروفه ويهلل بكلماته لتكون عباداته الكتابية نابعة من المفردات المقدسة ومنسجمة معها، فهو يقف أمام كتاب قال فيه رسول الله (ص): (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) (بحار الأنوار: 19/6)، وهو نص قال فيه الإمام علي (ع): (.. فهو معدن الإيمان وبُحبوحتُهُ، وينابيعُ العلم وبحورُه، ورياضُ العدل وغدرانُه، وأثافيُّ الإسلام وبنيانُه، وأوديةُ الحق وغيطانُه، وبحرٌ لا ينزفُه المُستنزفون، وعيونٌ لا يُنضبُها الماتحون، ومناهلُ لا يُغيضُها الواردون، ومنازلُ لا يَضلُّ نهجَها المسافرون، وأعلامٌ لا يَعمى عنها السائرون، وآكامٌ لا يجوزُ عنها القاصدون، جعله الله رِيًّا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطرق الصلحاء ..) (نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 2/460).
وهذه المسحة الكتابية المتناغمة مع المقدس نلحظه بشكل واضح في عدد غير قليل من كتب تفاسير القرآن الكريم التي ازدانت بها المكتبة الإسلامية والعربية وغير العربية خلال أربعة عشر قرنا، على أن الرسول الأكرم (ص) هو أول من فسّر القرآن بما نزل عليه الأمين، قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلّهم يتفكرون" (سورة النحل/ 44) وتبعه في ذلك أهل بيته الذين زقوا العلم زقّا.
وأصبح تفسير القرآن بذاته علماً مستقلا تعددت فيه المناهج من تفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالحديث، وغيرهما، كما تنوعت مشاربه، فبعض تناول الجانب التشريعي، والآخر الجانب النحوي والبلاغي، وثالث الجانب الإعجازي والعلمي، ورابع الجانب التاريخي، وغير ذلك، ولهذا كثرت التفاسير في الأبواب المتفرقة، فصارت المكتبة الإسلامية تملك خزينا كبيرا منها، لأن التفسير بذاته علم متنوع يحمل معه عوامل تجذره وقوته.
التفسير المسترسل
والتنوع في التفاسير أعطى لهذا العلم الشريف ميزة كبرى، لا يرقى إليه كل مفسِّر، ولكن مع وجود هذه القيمة، فإن علم التفسير وبشكل عام لم يستطع أن يكون في متناول فهم الجميع، فليس كل الناس ضليعين باللغة العربية أو بالفلسفة أو بالبلاغة أو بالحديث أو بالتأويل وبغيرها، ولأن الهدف الأسمى من التفسير هو تقريب الأفهام إلى كلام الله، فإن المكتبة الإسلامية شهدت حديثا (1431 هـ- 2010 م) ظهور كتاب "التفسير المسترسل" للفقيه آية الله الدكتور الشيخ محمد صادق بن محمد الكرباسي، وهو تفسير للجزء الثلاثين من القرآن الكريم أو ما يعرف بـ (جزء عمّ)، صدر عن مكتبة دار علوم القرآن بكربلاء المقدسة في 414 صفحة من القطع الوزيري.
ولم يأت العنوان جزافا، فهو اسم على مسمى، فالإسترسال في اللغة هو القول السلس البسيط الواضح غير المقيد والمعقد، وهكذا أراد المفسِّر الكرباسي أن يكون تفسيره قريبا من كل الأفهام والعقول مسترسلاً غير قابل للقطع أو التوقف، وحسبما جاء في مقدمة الناشر: (فهذا التفسير المبتدئ بجزء عمّ ليستكمل لاحقا كل أجزاء القرآن الثلاثين، هو بحق تفسير حديث يمكن أن يقال إنه لكل الناس بلا استثناء يجد فيه الإنسان العادي سلاسة التفسير، والمفكر والباحث بلاغة المعنى وقوة التفسير، والقارئ للقرآن حسن القراءة، والباحث جداول للألفاظ القرآنية ومعانيها وإعرابها، وقد أراده المؤلف حفظه المولى مرشداً للأجيال، آخذاً فيه منحىً تفسيرياً، مبتعداً عن التأويل والمصداق إلا إذا اقتضت الضرورة).
وأهم ما يميز الإنجاز العلمي الجديد للموسوعي والمعرفي البحاثة الكرباسي، الأمور التالية:
أولاً: استهل التفسير بشرح علامات الضبط في النص القرآني بالرسم العثماني، مما أضفى على (التفسير المسترسل) سمة التعليم للقارئ، فهو إلى جانب قراءة التفسير يعوّد لسانه على قراءة القرآن بصورة علمية وسليمة مع ضبط قواعد القراءة.
ثانياً: اعتمد المفسِّر وبأسلوب متجدد على تفكيك الآية الكريمة وتضمين التفسير بين كلماتها وحروفها المعلَّمة باللون الأحمر، وهذا ما جعل التفسير مسترسلاً سلساً يبتعد عن التعقيد كليًّا، ومفهوما لمختلف الفئات العمرية ومستوياتها، بل وتيسير القراءة على المسلمين غير الناطقين بالعربية من خلال تبسيط الرسم العثماني.
ثالثاً: اعتمد الألوان في وضع حروف وكلمات الآيات، حيث يشير كل لون إلى قاعدة من قواعد علم التجويد، مما يسهّل على القارئ تلاوة القرآن إلى جانب التفسير تلاوة محكمة، كما اعتمد تقطيع كلمات الآية الكريمة وحروفها ووضعها في صفحة مقابلة كأسلوب جديد لتعليم قراءة القرآن الكريم وإخراج الحروف من مخارجها بصورة سليمة.
رابعاً: وهو في الوقت الذي ينفي التحريف يؤاخذ البعض الذي: يضيّق في مكان ويتوسع في آخر، ومن تلك مسألة وضع أرقام السور وعدد الآيات، فعدّها من التحريف، فقام بحذفها من القرآن بعد أن درجوا عليها لفترة طويلة، بينما يُثبتون البسملة في كل سورة ويدّعون أنها ليست من القرآن، مع أن روايات أهل البيت (ع) تصرّح بأنها أعظم آية استبعدوها من كتاب الله جل وعلا، والمفارقة كبيرة، ويعتقد المحقق الكرباسي أن البسملة تضم بين أحرفها مفاد آيات السورة الكريمة. ولذلك فعنده: إن كل بسملة من البسملات الواردة في السور القرآنية لابد وأن تكون منسجمة مع روح السورة التي بدأت بها، ولها قابلية لهذا التنوع لأنها جاءت كمفتاح رمزي لكل ما من شأنه البدء به، ولا شيء في الوجود من عمل الخير إلا ورمزه كامن في البسملة والبدء بها، ومن هنا جاء في الحديث كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر"، وتطبيقا لهذا المعنى فإن الشيخ الكرباسي وفي بادرة معرفية فسّر كل بسملة بما يناسب روح السورة الكريمة.
وحتى يكون التفسير سلسا بما فيه الكفاية، فإن البحّاثة الكرباسي ختمه بمقالة واسعة ضمّت الموضوعات التي تناولتها سور وآيات "جزء عمَّ" بما يجعل هذا الجزء مترابطا فيما بينه، بدءاً بالبعثة النبوية وانتهاءاً بالبعثة البشرية وقد ضمّ العناوين التالية: حكاية عمَّ، بعثة الرسول وتداعياتها، كيف هو الله؟، المراقبة، تصنيف الناس، الرسول والقرآن، الدعوة للنظر بإمعان إلى ما يلامسه الإنسان، دعوة إلى مراجعة التاريخ، عظة، الباري يُقسم بما أبدع، وقفة اعتبار، تفكُّر ساعة، التذكير مُجدٍ، إنذار، دعوة صادقة، من هو الإنسان؟، توبيخ، متى تبدأ القيامة؟ كيف يتم النشور؟ الحساب، بُعيد الحساب، جزاء المؤمنين، وصف الجنة، عقاب العاصين، ووصف جهنّم.
ربما يكثر الكلام حول القرآن الكريم بأنه كتاب هداية لا كتاب علوم، وهذه المقولة في مؤداها العام صحيح، ولكن حينما يتم التمعن في كثير من آيات القرآن الكريم يجد المرء فيها جملة من العلوم التي كانت على عهد نزول الوحي يُشار إليها إشارة، كما يجد الكثير من الإشارات لعلوم لم يصل إليها عقل الإنسان في تلك الفترة، بل وحتى في فترتنا الحالية رغم الثورة العلمية. ومن هنا فإن البحاثة والمفسِّر الكرباسي وضع فهرساَ موضوعيا رتب فيه وفق تسلسل الحروف الهجائية العلوم والفنون التي تضمنتها سور الجزء الثلاثين من القرآن الكريم، وجاء تسلسل العلوم والفنون على النحو التالي: علم الآثار، علم الإجتماع، علم الأجِنَّة، علم الأخلاق، علم الإدارة، علم الأديان، علم طبقات الأرض، فن الإعلام، علم الإقتصاد، فن الأمن، علم الإنسان، علم البلاغة، علم التاريخ، علم التربية، علم الجغرافية، فن الحوار، علم الحياة، علم الحيوان، علم الزراعة، علم السِّحْر، علم السياسة، علم الطبيعة، العقيدة، علم الفضاء، علم الفقه، علم الفلسفة، علم الفلك، علم الفيزياء، علم الكيمياء، اللامرئيات، الماورائيات، فن المناظرة، علم المنطق، علم النشأة، وعلم النفس.
* باحث وإعلامي عراقي
* ــــــــــــــــــــ
|
|