قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
"تطبيقاً" وليس نصوصاً و"شعارا"
نحتاج "دولة" العدل والمساواة ..
دائماً ما كانت قضية المساواة بين الناس عبر العصور تمثل تحدياً كبيراً أمام المجتمعات البشرية، حيث إن المشكلة تكمن عندما يعطي البعض من الناس لنفسه الحق أن يتميز على الآخرين من أبناء مجتمعه أو الناس عموماً، وقد يجعل لذلك غطاءً وتبريراً من خلال الجنس أو اللون أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، او الثروة والموقع، وهكذا. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه النظرة في التمايز عن الآخرين إلى حالة من التفضيل والتمسك بالامتيازات والخصوصيات التي تعطيه الحق في الاستئثار والهيمنة والاستفراد التي يراها البعض حقاً طبيعياً وربما مشروعاً، وهو ما أدى إلى نشوء حالات من النزاع والتصادم وعدم الاستقرار في كثير من المجتمعات التي عانت من هذه الحالة.
وحاربت الأديان السماوية هذه النزعة البشرية السيئة وعدّتها حالة سلبية من شأنها أن تؤثر على البناء الاجتماعي والاستقرار البشري، وفي قبالها رسخت المفاهيم الدينية الحالة الأخلاقية والسلوكية التي تدعو إلى النظر للناس من خلال نظرة إيجابية تقوم على أساس التعارف والتواصل والاحترام بدلاً من الشك والريبة والخوف، وفي هذا الشأن يطرح القرآن الكريم رؤية سامية ومتقدمة في بناء نمط راق من التفكير فيقول ربنا عز وجل: " يا أَيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثَى وجعلناكُم شعوباً وقبائلَ لتَعارَفوا إن أكرمكم عندَ اللهِ أتقاكم إن اللهَ عليمٌ خبِير". وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: خاطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوسط أيام التشريق خطبة الوادع، فقال :" يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وجاء في الحديث الشريف المروي عن الرسول الأكرم (ص) :" الناس سواسية كأسنان المشط" ولم يكتف (ص) بتوجيه الناس من خلال الآيات القرآنية المباركة والأحاديث النبوية الشريفة، وإنما عمل على تحقيق ذلك من خلال الممارسة في أوساط الناس فكان (ص) يجلس كبقية الناس ويعيش كالآخرين لا يميزه شيء حتى قالوا فيه "كان فينا كأحدنا" وكان (ص) نموذجاً فريداً في التواضع وتطبيق المساواة مع أبسط الناس في المجتمع وأضعفهم وأفقرهم.
وأسهمت التطورات الاجتماعية والسياسية بعد عقود من الصراع المرير من أجل تحقيق المساواة في تقديم كثير من النظريات والأطروحات التي تدعو إلى تحقيق المساواة وعدّها ركناً أساسياً في بناء المجتمعات الحديثة وعنصراً ضرورياً من أجل بناء الدولة الحديثة المعاصرة التي ترى حق الناس في أن يعيشوا في حالة من المساواة والتكافؤ في الفرص واعتمدت الدول المعاصرة في ذلك المساواة كمادة رئيسة في دساتيرها وجعلت ذلك من مظاهر التميز في سياساتها وإعلامها وبرامجها على طريق التنمية والنهوض بمجتمعاتها وقد يكون من الصعب ألا تجد دستوراً لدولة متقدمة أو حتى متخلفة لا يتبنى قضية المساواة كمادة رئيسة في بنوده.
ولكن المشكلة تكمن دائماً في التطبيق العملي على أرض الواقع، وهنا يتضح الفارق بين دول متقدمة قطعت شوطاً كبيراً في طريق تحقيق المساواة وبين دول أخرى لاتزال تراوح مكانها، إذ لا يكفي التظاهر بشعارات المساواة بين المواطنين ما لم يلمس الناس هذا الأمر، ويتحقق ذلك في تلمس الدولة لقضاياهم وحاجاتهم ذلك أن دولة القانون والمؤسسات تقوم على مبدأ تساوي المواطنين جميعاً من دون استثناء أمام القانون في الحقوق والواجبات وإلا فقدت قيمة المساواة في المجتمع، وهو ما يؤدي إلى نشوء الطبقية والاستئثار والهيمنة، ورغم أن الدساتير في بلداننا تنص على تساوي المواطنين لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، وأن لا تمييز بينهم في ذلك، بين مسؤول ومواطن عادي، بين فقير وغني، إلا أن الناس يرون أن هذا الأمر في كثير من الأحيان هو مجرد حبر على ورق عندما يرتبط الأمر بالتطبيق على أرض الواقع، والحديث في ذلك يطول. ولو كان الأمر مجرد ادعاءات ليس لها دليل لكان الأمر مختلفاً، ولكن الممارسة الواقعية تدل للاسف الشديد على خلاف ذلك، وهو مايدركه ويلمسه المواطن الذي لاظهر ولاسند ولا "واسطة" له، ولامحسوبية، وثروة وموقع..
إن دولة المؤسسات و القانون العادل، تعمل على احترام حق الناس في الحياة أعزاء في ظل حياة حرة وكريمة، فلماذا نجعل الناس ضعفاء لا حول لهم ولا قوة؟ ولماذا نجعل الناس يتسولون و"يستجدون" حقوقهم، و عيشهم، وسكنهم، و... ؟؟؟، لماذا نجعل الناس من كبار السن والعجزة مثلا "يستجدون" بإذلال، حقهم في رواتب هزيلة من الرعاية الاجتماعية ؟، لماذا استجداء و"إذلال" المواطن على ابواب الدوائر وهو يطلب تمشية معاملاته وبالروتين الممل والقاتل..؟ او وهو يطلب الحصول على حقه في قطعة ارض وسطن لائق؟، او على على وظيفة أو راتب مجزٍ يضمن له عيشاً كريماً وعزيزاً..؟؟؟. إننا بحاجة إلى قيام الدولة التي يفتقدها الناس في حياتهم اليومية ويفتقدها الوطن في نهضته وتنميته، بحاجة لدولة المؤسسات و القانون العادل "تسريعا وتطبيقا"، و ليس في الدساتير فحسب، وإنما على أرض الواقع والتطبيق.