شعوب مستلبة بلا مناعة ثقافية
|
*عدنان الصالحي
يعاني العالم العربي والاسلامي من أزمات مستفحلة سببها الرئيس سيطرة الدكتاتورية والحكومات الاستبدادية على مقدراتها ولسنوات طويلة، طبيعة الثقافة المتكرسة وعامل الجهل وقلة الوعي الجمعي مثلت فيما يبدو عناصر مهمة في وجود مثل حالات مزمنة كهذه سهل على الحكام التلاعب بمقدرات الشعوب ونهبها دون وجود المعارضة التي تمنع وتقف بالضد من ذلك. هذه الثقافة المتكرسة خلقت قيما وافكارا متخلفة تكرس حالات الاستلاب والتبعية والخنوع، لذلك فأن نوعية الثقافة ومستواها تخلق قدر الشعوب وحاضرها ومستقبلها.
(الثقافة) كلمة لاتينية الأصل مشتقة بدورها من كلمة (colere)، وتعنى (زرع الأرض) وهو مصطلح مختلف المعاني، ومع ذلك، فإنه يمكن استخدام كلمة (ثقافة) في التعبير عن أحد الآراء الأساسية التالية:
• التذوق المتميز للفنون الجميلة والعلوم الإنسانية، وهو ما يعرف أيضا بالثقافة عالية المستوى.
• نمط متكامل من المعرفة البشرية، والاعتقاد والسلوك الذي يعتمد على قدرة التفكير الرمزي والتعلم الاجتماعي.
• مجموعة من الاتجاهات المشتركة والقيم والأهداف والممارسات التي تميز مؤسسة أو منظمة أو جماعة ما.
• بناء أساس ومرتكز لتعدد المعلومات وترتيبها وفق أسس عقلية (توالدية).
ان نوعية الثقافة ومستواها هي التي ترسم قدر الامم وتقودها نحو الهلاك او الحياة بل إن فقدان ثقافات التقدم طالما أوجد سببا لضمور العديد من الشعوب والحضارات التي لم تستند الى قاعدة علمية رصينة او التي لم تهتم بثقافة مجتمعها وأبنائها, فكان مصيرها الطبيعي أن تعاني من الانحدار الفكري والاجتماعي والذوبان في مجرى الحياة الواسع.
الحروب هي أكثر مما يهدد العالم في تصور الكثير وهو أمر ليس بالهين, إلا إن الحقيقة تقول شيئا آخر، فجميع ما يساق في العالم تكون بدايته ثقافية فكرية، فمن أجل تمرير مشروع عسكري ضد جهة ما أو مشروع تجاري مع جهة أخرى لابد لك أن تضع المرتكزات الاقناعية لتهيئة ذهنية عامة تتلقاه بمقبولية كون طبيعة الإنسان وغريزته تبحث دائما عن معرفة المجهول وكيفية حدوثه.
ولا نغالي إذا ما قلنا أن لا استبداد ولا فرعنة ولا دكتاتورية لولا تسلط الجهل وقلة الوعي التي تنتج ثقافة الخنوع والتبعية في المجتمعات التي يحكمها المستكبرون، والا كيف يعقل لإنسان أن يقول لإنسان آخر "قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر /29). فالعقلية التي توصل الإنسان أن ينتدب من يفكر نيابة عنه إنما هو أضل من الأنعام واقل شأناً منها وهذا ما جعل المتسلطين لا يرون إلا الجهل وسيلة لتسلطهم وبقائهم في سدة الحكم، إضافة لما تقدم فان لقلة الثقافة إفرازات كثيرة منها ظهور الانحرافات المختلفة والأفكار التافهة والإشاعات المغرضة، كما إن هنالك علاقة عكسية بين حجم الوعي وحجم الفساد وتردي القيم الخلقية في المجتمعات.
بينما تكون العلاقة بين الوعي الاجتماعي الذي تمتلكه الناس وبين القسوة التي يسلطها الحكام والسلطات الدكتاتورية خصوصا، علاقة طردية فكلما كان الناس أكثر وعياً وتفهماً وتفقها في شؤونهم الحياتية عموما كلما كانت القبضة الحديدة أشد وأكبر.
في عصرنا الحالي بدأت الثقافات تتسع بشكل مضطرد الى درجة لا تكاد تميز بين الغث والسمين نتيجة تطور وسائل الاتصال والبث وهذا ما يلقي عبئا كبيرا ومشكلة أكثر تعقيدا في صناعة الثقافة الموجهة الصحيحة التي تفي بشروط الشخصية الإنسانية الناجحة البعيدة عن الابتذال والتسافل، وفي نفس الوقت تحصينها من (فايروسات) الثقافة الظاهرية القشرية التي لا تعدو جعل الإنسان مأكلاً وملبسا.
النمو في ثقافة المجتمع هي في واقع الحال نهوض بمستويات المجتمع المختلفة فتغير الحالة التنموية والاقتصادية والعلمية والفكرية والسياسية وأدلجة أطر التفكير وفق النمطية العقلانية، بحاجة لتغيير في مستوى تفكير الفرد والمجتمع وهو ما يشكل عاملا واضحا في رسم مستقبل وحياة الشعوب، كون ثقافة المجتمع هي المسؤولة عن الأنماط السلوكية والاتجاهات المحركة لأي مجتمع.
ويرى الباحثون بان الثقافة العامة هي في الواقع مجموعة القيم والتجارب والخبرات التي مر بها ذلك المجتمع وهي تمثل هوية الأجيال المتعاقبة له, ترافقه ومادته التي تسهل حركته التاريخية فبها ومن خلالها يعرف ما يحتاج كل زمان ومكان ليتعايش معه. وهذا ما تترجمه المقولة المشهورة (إذا لم تتغير فمن الممكن أن تفنى)، وفي نفس الوقت فان التغيير من اجل الإصلاح لا من اجل الفوضى والتهريج والانحلال.
على ذلك يمكن تقسيم مفهوم الثقافة إلى قسمين:
1- الثقافة الاجتماعية: وهي القدرة على التعايش مع الجماعة والإسهام في تكوين البنية الفكرية والعلائق الاجتماعية للمنظومة البشرية في اطر المجتمعات ومن ثم النهوض به إلى تطور فكري واجتماعي وعمراني ملموس ونهضة شاملة.
2 - الثقافة الذاتية أو الفردية: وهي تلك الثقافة التنظيرية التي يمتلك صاحبها مخزونا فكريا وأدبيا وعلميا ومعرفيا ليس بالقليل وهي جزء لا يفترق عن ثقافة المجتمع العامة بل هي جزء ورافد أساسي له.
يقول المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه (الصياغة الجديدة): (...إن لكل مجتمع ملامح وكل مجتمع واصل السير، وادامة قطع المراحل فهو مجتمع سليم) إذ يجب ملاحظة الروح العامة السائدة في المجتمعات، وهل إنها مطابقة للمقياس الصحيح أم غير ذلك؟ فإن كانت مطابقة للمقياس الصحيح كان المجتمع سليماً، وأما إذا لم تكن كذلك كان المجتمع منحرفاً ومريضاً. ومن أهم علائم الانحراف محدودية الثقافة ونقصها، ولا نقصد نقص ثقافة خاصة كثقافة الاقتصاد أو ثقافة الاجتماع أو السياسة أو غيرها، إنما نقص ثقافة الحياة بمجموعها، فإن من الضروري:
أولاً: أن يعرف الإنسان طبيعته.
وثانياً: أن يعرف ماذا يلائمها، وماذا ينفرها؟
وثالثاً: أن ينظر هل الاجتماع مكوّن من الملائم أو المنافر؟
لقد منح الخالق عزوجل لكل إنسان القدرة على أن يتكامل في جميع الحواس التي متعه بها ولعل السير في تنمية قدراته الفكرية تبدو في طليعة من أوجبت الشريعة والعلم العمل بها والحث على طلبها لذا فمن الضروري اليوم أن نأخذ باهتمام متزايد ما يتطلبه العصر الحالي من توسع بالثقافات الحقيقية التنموية لعقلية الشعوب والنهوض بالمستوى الفكري لينسجم ومتطلبات المرحلة من تطور تقني في جميع جوانب الحياة وحماية المجتمعات وتحصينها من أي تسخير ثقافي أو استغلال فكري او استلاب نفسي او اغتراب حضاري.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
|
|