قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

إضاءات في طريق الثقافة وتقصّي الحقائق
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة أنور عزّالدين
في زحمة الافكار والثقافات يكون الانسان بأمسّ الحاجة الى تمييز الجيد من الرديء، والصحيح من الخطأ، وهو في ذلك يمضي في طريق التطور والتقدم، فهنالك افكار ربما يكون ظاهرها حيوياً وجذاباً ولكن عند تداولها يتضح انها تسوقه الى طريق لم يكن يريده بالأساس، وبالعكس هنالك أفكار ظاهرها الجمود والكآبة لكنها في الحقيقة تدعو الانسان الى حيث سعادته وتكامله في الحياة. فكيف السبيل الى ذلك؟
بداية لابد من التعرّف على كل فكرة أو موضوع يطرح على صعيد المجتمع، فعندنا الصحف والمجلات والكتب، وهذه هي الحاضنة الأساس للفكر والثقافة، تعضدها وسائل الاعلام المرئية المتمثلة اليوم في القنوات الفضائية، ولكن قبل هذا، علينا أن نعلم بوجود حالة لدى الانسان تعيقه عن الوصول الى حقيقة الثقافات الضارّة له ولمجتمعه، ألا وهي (التبرير)، فعندما يريد الانسان شيئاً يسعى لتبرير حصوله عليه بشتى الاعذار ليتهرّب من المساءلة.
على سبيل المثال لا الحصر، عندما تنتشر مطبوعات تحمل موضوعات جنسية، مثل الكتب او بعض المقالات في الصحف والمجلات، فان البائع والمشتري يتفقون على أن هذه هي (ثقافة جنسية)، وليس في الأمر لهو ولعب، بينما هي بالحقيقة بداية لتكريس (ثقافة تبريرية)، لأن الذي سيتناول الكتاب أو المجلة على قارعة الطريق ربما يكون شاباً يافعاً وحتى صبياً من الجنسين، كما يكون رجلاً أو امرأة راشدة، فهي للرجل والمرأة المتزوجين ربما تكون مفيدة، لكن ماذا عن الصبي أو الشاب الأعزب الذي يدرج في مراحل الدراسة أو يطوي مرحلة المراهقة الصعبة؟
هنا يأتي دور السؤال والتحقق من هذا الكتاب أو هذه الفكرة أو تلك الكلمة وغير ذلك، وهو بالحقيقة يمثل المفتاح للوصول الى الثقافة الصحيحة، لأن الثقافة بالأساس هو منظومة من الافكار المتماسكة التي تغذي سلوك الانسان وتصرفاته، فاذا آمن بفكرة ما، فانها ستطبع كل سلوكه وتصرفاته ومتبنياته، لذا عندما نستمع الى كلام الاخرين، نتساءٍل: لماذا يقول هذا الانسان هذا الكلام؟ ومن هو المستفيد؟ وعندما نقرأ كتاباً ما أو مقالاً في صحيفة أو حتى اذا شاهدنا برنامجاً في قناة ما، نتساءٍل: ما السبب والدافع في طرح هذا الموضوع ؟ فان لم نعرف لماذا كتب، ولماذا طرحت هذه القضية في هذا الوقت بالذات، فان امامنا السؤال التالي: هذا الكلام يخدم من؟
وعندما تقع جريمة نرى ان خبراء الجريمة يبادرون الى البحث قبل كل شيء عن المستفيد من هذه الجريمة، وقبل ان يفكروا في اصدقاء المقتول فانهم يفكرون في الاعداء، وفي اولئك الذين انتفعوا بقتله.
الثقافة متهمة حتى تثبت براءتها
إذن، الثقافة يمكن عدّها سلاحاً ذاٍ حدّين، وليس كل ثقافة يمكن تناولها، وليس كل موضوع يمكن لأي فئة عمرية او اجتماعية التعامل معها، لذا لابد من التحقق والسؤال، فالثقافة في ساحتنا الاسلامية متهمة حقاً حتى تثبت براءتها، ونستوحي ذلك من حديث للرسول الأكرم صلى اللـه عليه وآله حيث يقول: (من أصغى الى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله، وان كان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس)،
فاذا كانت الثقافة متهمة، فلابـد ان يطـرح السؤال التالي: من المستفيد من نشر هذه الثقافة؟ وبأي دافع كتبت هذه الافكار؟ وبالطبع ليس هناك احد يقول عن نفسه انه خاطىء، فكل الناس يميلون الى مدح انفسهم، وكما أسلفنا فان الانسان بارعٌ في تبرير افكاره وسلوكه، وهي مسألة طبيعية كشف عنها القرآن الكريم ضمن تبيينه الرائع لطباع الانسان وخصاله: يقول تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ" (البقرة /206).
في السنوات الماضية كانت المكتبة العربية والى جانبها الاعلام العربي يعجّ بالمؤلفات والاصدارات المهولة للقدرات التي يمتلكها الغرب وتحديداً الولايات المتحدة، من اقتصاد ضخم وتجارة خارقة ومخابرات متغلغلة في كل ارجاء الكرة الأرضية! وسياسة متنفذة في جميع أنظمة الحكم في العالم وغير ذلك، ولابد من الاشارة الى ان نصيب الكيان الصهيوني من هذا الجهد الاعلامي والثقافي الرخيص كان كبيراً، فقد خُيّل الى الانسان العربي والمسلم أن لا حول ولا قوة لهم بوجود مخابرات اسرائيلية متنفذة وقوة عسكرية لا تقهر وسيطرة اليهود الى أموال العالم و.... غير ذلك، والغريب حقاً أن نجد ان هذه اللهجة تستمر حتى اليوم من خلال بعض الفضائيات العربية التي تدعي كذباً و زوراً انها صوت للاسلام وللقضايا الاسلامية في العالم، واذا بها تخذل حتى القضية العربية في اطارها القومي، عندما تكشف الثغرات والعيوب، ليس لاسرائيل والغرب طبعاً لغناهم عن ذلك، انما للمشاهد العربي والمسلم ليتأكد انه وصل مستوى البؤس والشقاء، وليس له إلا ان يشكون دهره ويبكي قتلاه ومآسيه التي لا تعد ولاتحصى.
لكن الزمن وتطور الاحداث كان كفيلاً بان يفضح هذا التزييف، فحتى فكرة (العولمة) باتت مهددة بالانهيار، رغم ما قيل عنها والامكانات الهائلة التي سخرت لأجلها، حتى تتحقق فكرة (القرية العالمية) كما يدعون، فقد ارتفعت اصوات شعوب عديدة بالرفض القاطع لكل اشكال إلغاء الهوية ودمج الثقافات وتحرير التجارة بما يلحق الضرر الفادح باقتصاديات الدول الضعيفة، وقد توّج هذا المجهود الضخم والهائل بنظريتي (صراع الحضارات) التي أطلقها الامريكي (صمويل هانتنغتون) و نظرية (حافة التاريخ) التي ابتدعها الامريكي من أصل ياباني ميشيل فوكوياما. كل ذلك لم يصمد أمام إرادات الشعوب وحقائق العالم. والحديث يطول ويدخلنا عالم السياسة، عندما نتحدث إشارةً عن الهزائم المنكرة التي لحقت بقوات الكيان الصهيوني في جنوب لبنان على يد ثلّة من افراد المقاومة الاسلامية، وفي الغرب لاحظنا عمق الهشاشة في البنية الاجتماعية والثقافية أمام المد الاسلامي الزاحف، وهو ما يحاولون منعه وصدّه بوصمه بـ (الارهاب) لكن دون جدوى. فاذا كانت هنالك مطالعة معمقة للافكار و وقفة متانية أمام كل فكرة او موضوع منذ سنوات، لما كان بامكان الغرب ان يتلاعب بمصائر الشعوب الاسلامية كيف يشاء، ومثالنا في ذلك المجتمع السنّي في العراق بعد الاطاحة بنظام صدام، فقد انهالت عليه الافكار والتصورات والتحليلات حتى بلغ حداً انه يتوقع الموت يداهمه كل لحظة! فكان أن اندفع نحو حرب ضروس ومدمرة لا يعرف أبعادها واهدافها الحقيقية ومن يقف ورائها، فكانت الخسارة فادحة وكبيرة بارواح الالاف منهم وتأخر عن العملية الديمقراطية في العراق، والانكى من ذلك صدمة الحقيقة باماطة اللثام عن وجه (القاعدة) الذين آووهم ونصروهم.
ما هي المعايير؟
لقد اصبح الجواب واضحاً الى حد ما، فاذا عرفنا الشخص او النظام الذي تخدمه هذه الثقافة فاننا نكون قد عرفنا حقيقة هذه الثقافة، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تفضح العوامل النفسية القابعة وراء الثقافات الباطلة، فمن المهم جدا ان نكتشف خلفيات الثقافة، والدوافع الخفية وراء الكلام، بعد ذلك علينا ان نكتشف الحالة النفسية التي يعيشها المتكلم، فان كان هذا المتكلم يعيش حالة الجبن والتخاذل فان ثقافته ستكون منطبقة على هذه الحالة. وعلينا ان نأخذ بنظر الاعتبار ان أهم جزء في الثقافة هو نهايتها ونتيجتها، فالثقافة التي تنتهي الى العمل الصالح هي ثقافة سليمة، وإلاّ فانها الثقافة التي تدعوك الى التخاذل والاستسلام والقبول بالامر الواقع. ومن هنا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله حيث قال: (لا تجلسوا عند كل داع مدع يدعوكم من اليقين الى الشك ومن الاخلاص الى الرياء. ... وتقرّبوا الى عالم يدعوكم من الكبر الى التواضع، ومن الرياء الى الاخلاص ومن الشك الى اليقين. ..)، وفي حديث آخر عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام قال: (ألا أخبركم بالفقيه حقاً ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين، قال : من لم يقنّط من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله...).
من هنا يجدر بنا ان نفتش عن من ينتهي كلامه بنا الى الرجاء والامل، والى العمل والتحرك والنشاط، وان نحذر من مجالسة الذي يؤدي كلامه بنا الى القعود واليأس، وهذا بمعنى أننا مطالبون في نفس الوقت بالمطالعة المتأنية والواسعة وعدم الهروب من الافكار والثقافات، لأن الانسان الواعي واليقظ لا يخش أحد، فاذا وضع بين يديه كتاباً – مثلاً- ينفي انسانية الانسان، فان عليه ان يقرأه بالكامل وبدقة، حتى يتمكن من نقده بالكامل أيضاً من خلال الادلة والبراهين العديدة لديه. وهكذا نعرف لماذا تهرب الديكتاتورية السياسية والفكرية من الوعي والثقافة والعقل، لأنها وسائل إضاءة وتمزيق حجب الظلام، وابزر الامثلة أمامنا النظام الماركسي البائد فيما كان يسمى بالمعسكر الشرقي والنظام البعثي البائد في العراق.