نظرة على العلاقة المطلوبة مع أهل البيت (ع)
الاتّباع والاقتداء بدلاً من الإفراط والتفريط
|
*سليم الموسوي
خطان يمكن للباحث أن يلحظهما في التعامل مع المعصومين (عليهم السلام)، بالرغم من كونهما على طرفي نقيض إلا انهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة، وهي إخراج الناس من محيط الاتباع والاقتداء، بعد أن يخرجان من الحد الوسط والجادة الصواب إلى هامش الطريق، إفراطا وتفريطا. وهما: الغلو و التقصير.
وبما ان حالنا اليوم يصدق عليه الدعاء المأثور: (نشكو قلّة عددنا وغيبة ولينا وشدة الفتن بنا...)، فانه يتوجب علينا اليوم وليس غداً، الى أن نجسر العلاقات مع أئمتنا الهداة بعد التعرف على النمط المطلوب من هذه العلاقة، وهذه العملية تعتمد على تكوين (الاتباع والاقتداء) كعلاقة نهائية بين الأمة وبين المعصومين، وهي لا يمكن أن تتكرس في ظل سيادة نظرة الغلو، ولا التقصير. ذلك ان المغالي كما لا يغالي إلا وهو مصمم على عدم الاتباع، فيرفع درجة الشخص إلى مراتب لا يدعيها الشخص لنفسه، فيخرجه من حالته البشرية إلى مرتبة التأليه – حاشاهم من ذلك - وحينئذ لا يطالب نفسه بالاقتداء به، وأما المقصر فلأنه لا يعتقد بأن هذا الشخص يختلف عنه كثيراً فلماذا يقتدي به ؟!
ويظهر من عدد من الأحاديث الشريفة إشارات إلى هذين الصنفين، وإن كان التأكيد يكثر في ذم الغلاة، وذلك للخطر الاستثنائي الذي يمثله هؤلاء على العقيدة، ما لا يمثله المقصرون. فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: يا علي مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم احبه قوم فأفرطوا فيه وابغضه قوم فأفرطوا فيه، فنزل الوحي بالآية الكريمة: "وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ". وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (يهلك فيَّ اثنان؛ محب غال ومبغض قال).
وكما ذكرنا آنفا فإن الغلو كان الداء الأخطر والأكثر الذي ابتلي به المعصومون (عليهم السلام) من قبل الجهلة والخاطئين، وسوف نتحدث عن هؤلاء وعن دوافع الغلو وبواعثه.
جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال له: سلام عليك يا ربي!! فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): مالك! لعنك الله، ربي وربك الله، أما والله لكنت ما علمتك لجباناً في الحرب لئيماً في السلم، كما أبتلي أمير المؤمنين (عليه السلام) بمجموعة لم تستطع إدراك سر عظمته ولم ينته عقلها إلى إمكان وجود هذه العظمة في بشر مثلهم فألهوه، ولذلك احرقهم بالنار.
ويظهر أن هذه المجموعة وإن انتهت بأشخاصها إلا أن منحى الغلو استمر لفترات متأخرة حيث نجد رجلا يسأل الإمام الرضا (عليه السلام) محتجا بقول ينتهي إلى الغلو في أمير المؤمنين، ويظهر أن الإمام الصادق (عليه السلام) قد ابتلي أيضاً بفئة أخرى من هؤلاء الغلاة، فقد قام بعضهم يلبي باسم الإمام (يقولون لبيك)! فلما أخبر بذلك خرّ ساجدا إلى الأرض وهو يبكي، ويلوذ بإصبعه ويقول: (بل عبد الله، قنّ داخر)، يقول ذلك مراراً ثم رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته، قال مصادف أحد مواليه فندمت على إخباره، وقلت له: جعلت فداك وما عليك أنت من ذا ؟! فقال: يا مصادف إن عيسى لو سكت عما قالت النصارى فيه لكان حقاً على الله أن يصم سمعه ويعمي بصره، ولو سكت عما قال ابو الخطاب - أحد الغلاة- لكان حقاً على الله أن يصم سمعي ويعمي بصري .
وهكذا الحال نجد أن عددا من الانتهازيين ممن صنعوا مذهب الواقفة، اضطرهم ذلك إلى القول باستمرار حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) تلك لم تكن إلا نماذج لأنماط غلو الجهال في حياة المعصومين (عليهم السلام)، لكن ما هي دوافع الغلو وعوامله؟
1- المعرفة الناقصة.
المراقب لمكانة المفاهيم في الثقافة الإسلامية يجد أن المعرفة الصحيحة تحتل أهم المواقع، فحركة الإنسان الحياتية مرهونة في صحتها أو خطئها بالمعرفة التي يحملها، إذ ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة، ولهذا السبب يقيم المرء طبقاً لمعرفته، قبل تقييم عمله، فكم من عامل يجهد نفسه في العمل ولكنه يُخطئ الاتجاه لأنه ناقص المعرفة ولذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (لا تستعظمنّ أحدا حتى تستكشف معرفته)، ويتم تصنيف الاتباع لا على مقدار ممارساتهم العبادية فقط، وإنما على قدر معرفتهم ويقينهم، كما جاء في الحديث الشريف: (اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم)، بل إن العبادة تختلف فهي من العارف أفضل في قيمتها عن عبادة قليل المعرفة أو الشاك إلى درجة أن يكون (نوم على يقين خير من عبادة على شك).
وأثر المعرفة في السلوك والعمل يُدرك بملاحظة آثار الجهل الوخيمة في حركة الإنسان ذلك انك، لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطاً.
وكما أن المعرفة الصحيحة تؤثر في (حركة) الإنسان، فإن تأثيرها في عقيدته اكثر أهمية. ذلك أن العقيدة هي الإطار العام لحركة الإنسان، بل هي محتوى حياته. وبقدر ما تكون عقيدته سليمة، تكون حياته سعيدة، لذلك أمر الله الناس بالاستجابة لرسله لأنهم يدعون البشر إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وحياتهم. لكن الذين لم يعرفوا الله حق معرفته، لم يقدروه حق قدره، فانحرفوا عن الجادة من بدايتها، وأولئك الذين لم يعرفوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسلموا له لذلك أعلنوا عليه الحرب، وأولئك الذين لم يعرفوا الإمام معرفة صحيحة انقسموا إلى (محب غال ومبغض قال).
في هذا المجال وجدنا أن عدم المعرفة نهائيا أو المعرفة الناقصة أدت بهؤلاء الناس إلى الغلو، خصوصا انهم جهلوا أسرار الفضل والتفوق في شخصيات المعصومين فرفعوهم فوق مرتبة البشر، ومشكلة هؤلاء تكمن في أنهم لم يستطيعوا الجمع بين (بشرية) الأنبياء والأئمة، وبين (جامعيتهم) للمناقب والفضائل فسلكوا احد طريقين لإراحة البال من عناء التفكير والجمع بين هاتين النقطتين المهمتين فالبعض سلك طريق التفريط والتقصير، فكذب ما ورد بحق تلك الصفوة من البشر، زاعما أن ما ورد مجرد أكاذيب، وانه لا فرق بينهم وبينه، فكيف لا يستطيع هو أن يتخلص من قيود الهوى وأغلال المادة بينما يستطيع أولئك التحليق في سماء الفضائل!
2- الأحاديث المتشابهة.
في القرآن الكريم توجد "آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات"، والمحكمات هي التي يستطيع الغالب فهمها ومعرفة مؤدياتها ومعانيها، بينما المتشابهات تلك التي لا يستطيع معرفة معانيها غير من أنزلت عليهم والراسخين في العلم، وكل ذلك بتعليم الله سبحانه.
و وظيفة عموم الناس في ما يرتبط بالمتشابهات ردها إلى الله ثم إلى الرسول وخلفائه، والعمل بهذه الآيات المتشابهات قبل الرجوع إلى الله وإلى الرسول ليس فقط لا يهدي بل يوبق ويهلك.
وكما في القرآن الكريم آيات محكمة وأخرى يغلق فهمها على غير الراسخين في العلم، كذلك عندنا أحاديث وآثار، فمنها ما يمكن فهمه على الأغلب ومنها ما لا يستطيعه إلا العلماء، وكما كانت وظيفة العموم في ما يرتبط بمتشابه القرآن رده إلى الله وإلى الرسول فإن الوظيفة هنا كذلك - مع حفظ النسبة بين الآيات والأحاديث لجهة قطعية الصدور في الأولى وحاجة الثانية للتحقيق- فلا يجوز رد الآثار والأحاديث لمجرد أن عقولنا لا تبلغ أو لا تصدق وإنما ترد إلى العلماء بها، والمشكلة هي حين يقوم غير الخبراء بالتعاطي مع هذه الأحاديث وتفسيرها حسب مدركاتهم، فيفسدون ولا يصلحون.
3- المصالح الشخصية.
يضاف إلى عدم المعرفة ومتشابهات الأحاديث، ان عددا من الغلاة كانوا (ملكيين اكثر من الملك) فبالرغم من انهم كانوا ينهون من قبل المعصومين (عليهم السلام) من دعواتهم في المرحلة الاولى وفي مراحل أخرى يلعنون ويطردون ويتبرأ منهم، إلا انهم لا ينفكون متعلقين بدعوتهم، هنا لا بد من التفتيش عن المصلحة، فهؤلاء لو كان دافعهم غير المصلحة المادية أو الشهرة الاجتماعية والرئاسة لكانوا بذلك النهي، بل بتلك البراءة يتركون دعواتهم وينصرفون عنها، ولكن ما دامت هذه الدعوة تحقق لهم وجودا اجتماعيا، والتفافا من قبل السذج والبسطاء من الناس، فانهم لا يجدون حرجاً من الاستمرار في هذا النهج.
وقد كان الغلو نوعا من الهروب عن الالتزام الديني، فالمغالي يبدأ بتقديس الرسول أو الإمام ويرفعه فوق درجته بأن يجعله نبياً أو رباً - والعياذ بالله - ثم ينصب نفسه باباً وطريقاً وحيداً اليه، ويفرض على من يؤمن بدعوته أن يؤمن به باباً للإمام أو نبيا لذلك الرب!! ثم يبدأ باسقاط التكاليف عن نفسه وعن من يتبعه واجباً تلو الاخر. ولو نظرنا إلى ما سطره التاريخ من حركات الغلو وجدنا انها انتهت إلى حركات إباحية ومذاهب غير ملتزمة.
وقد فضح أهل البيت (عليهم السلام) هذا الهدف الذي يسعى له الغلاة، الا وهو اسقاط التكاليف الدينية وحذروا منها. فعن الإمام الصادق (عليه السلام) إنه قال: (احذروا على شبابكم لا يفسدهم الغلاة، فان الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله ويدعون الربوبية لعباد الله، والله ان الغلاة شر من اليهود والنصارى والمجوس الذين اشركوا..) ثم قال: (الينا يرجع المغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصر فنقبله.. قيل له: كيف يا ابن رسول الله ؟! قال: المغالي قد اعتاد على ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج فلا يقدر على ترك عادته ابدا والمقصر إذا عرف عمل أطاع) .
4- الافكار المستوردة.
ولأننا لا نريد أن نمحض المقال لموضوع الغلو وعوامله لذلك سنشير اليها اشارة عابرة. فمن العوامل المساعدة على نشوء الغلو تسرّب أو (تسريب) الافكار الاجنبية والدخيلة الى المجتمع الاسلامي، ذلك أن عمليات الفتح الاسلامي للبلاد المجاورة جعلت شعوب تلك المناطق يختلطون بسهولة بالمسلمين وحصل في هذا الاختلاط الاجتماعي تبادل ثقافي، فكما أثّر المسلمون في شعوب تلك المناطق واقنعوها بالدين، فإن عقائد تلك الشعوب وجدت طريقا كي تختلط بعقائد المسلمين مرتدية ثوب الاسلام، هذا الى جانب حركات التوجيه التي نشطت حينذاك وكان لها دور كبير في هذا (التسرّب)، فقد تسربت كثير من الاسرائيليات عن طريق نفر من المسلمين انفسهم امثال عبد الله بن عمرو بن العاص فقد روى انه اصاب زاملتين من كتب اهل الكتاب يوم (اليرموك) فكان يحدث الناس ببعض ما فيها اعتمادا على حديث مروي. ونستطيع أن نفهم هذا التسريب بتتبعنا لنشوء بعض الفرق، فهذا سوسن النصراني كان أول من نطق بالقدر وقد اظهر الإسلام، وعنه اخذ معبد الجهني، واخذ غيلان الدمشقي عن معبد، ثم عاد سوسن إلى النصرانية بعد أن بث فكرته.
وحتى اليوم نعاني من ظاهرة الغلو وعدم الفهم الصحيح لمنهج المعصومين الهداة (عليهم السلام)، فنقوم ببعض التصرفات والاعمال نظنها تقربنا الى أهل البيت (عليهم السلام)، وهم منها براء، وبنظرة خاطفة على بعض هذه الاعمال نجدها تعكس توجهات وظروف أصحابها، وتخدم اغراضاً معينة وواضحة تفضي في كثير من الاحيان الى تراجع القيم الاخلاقية والتحلل من الالتزامات الدينية التي أقصى ما بغاه أهل البيت (عليهم السلام)، في حياتهم، وما أرادوه منّا بعد ما قدموه من تضحيات جسام.
|
|