العمل الروتيني. . فيروس يهدد الاخلاق والابداع
|
*إيمان عبد الامير
تكثر فرص الاعمال والمهن، كما نرى اعلانات طلب العمال بل حتى العاملات على واجهات بعض المحال التجارية، وبالنتيجة نشهد ارتفاع دخل الفرد في معظم مدن العراق، إن لم نقل في جميعها، لكن مع ذلك نلاحظ علامات الضجر والسأم وعدم الارتياح على وجوه الناس.
أين المشكلة...؟ هل تكمن في الجهد العضلي الذي يبذله العراقي في الوقت الحاضر على تأدية اعماله بالشكل المطلوب والمتقن؟ أم في الجهد الاضافي الذي يبذله على توفير ما عجزت الحكومة توفيره وايصاله الى داره، مثل الكهرباء والماء والبحث عن الشوارع السوّية غير المحفورة والمتعرجة المليئة بغبار الأتربة والأوحال... وغير ذلك؟
ربما يكون لكل ذلك الأثر النفسي السيئ على الانسان، لكن يعتقد الخبراء ان الجهد العضلي والتعب البدني لا يقف وحده سبباً وراء الضجر والسأم، إنما العمل الروتيني الذي يدفع الانسان للشعور بالتعب النفسي وليس البدني.
العبث وليس العمل
يقول ديل كارنيجي الباحث الاجتماعي المعروف: (إنها حقيقة معروفة ان وضعنا العاطفي يسهم في تسبب الإرهاق أكثر من أي جهد جسدي). كما يشير جوزيف باراماك وهو دكتور في الفلسفة في (أرشيف علم النفس) تقريراً عن بعض تجاربه يظهر فيه كيف أن السأم يسبب الإرهاق والكآبة. فقد أخضع هذا الدكتور مجموعة من الطلاب لسلسلة من التجارب التي يعلم أنها لاتثيرهم. فما كانت النتيجة؟ شعر الطلاب بالتعب والنعاس، واشتكوا من الصداع وتوتر العيون، كما شعروا بالضيق. وفي بعض الحالات، كانوا يشعرون بتلبك في المعدة، فهل كل ذلك كان وهماً؟ كلا، فقدأجريت فحوصات على أولئك الطلاب، فظهر أن ضغط الدم واستهلاك الأوكسجين ينقص حين يشعر الإنسان بالضجر، وأن الجسد يعود إلى طبيعته بسرعة حالما يشعر الإنسان بالسعادة والاهتمام ومحبة العمل الذي يقوم به)!
ويضيف كارنيجي: (من النادر أن نتعب عندما نقوم بشيء مثير ومفرح. فمثلاً قمت مرة بقضاء عطلتي في جبال روكي الكندية حول بحيرة (لويس). أمضيت عدة أيام أصطاد سمك (الترويت) هناك على طريقتي الخاصة، سالكاً طريقاً مليئة بالاعشاب والشجيرات التي هي أطول مني، كما كنت أتعثر بالاخشاب وأنا أشق طريقي عبر الاشجار المقطوعة، ومع ذلك وبعد ثمان ساعات، لم اشعر بالتعب. لماذا؟ لأنني أحببت ذلك العمل، وشعرت بروح السعادة والتفوق وتحقيق الذات: إذ اصطدت ست سمكات كبيرات. ولكن لنفترض أن الصيد سبب لي السأم، فكيف تظن سيكون شعوري؟ كنت سأصاب بالارهاق بسبب هذا العمل الشاق على علو سبعة آلاف قدم).
هذه تجربة من انسان يعيش في الغرب البعيد، فهو يرفض ان يكون عمله عبثياً لا فائدة من ورائه ولايكسب منه راحة نفسية، في حين انه في حدود نفسه وذاته ولايتعلق عمله بأحد من افراد أسرته او مجتمعه، بينما نرى الانسان العراقي – مثلاً- في اجواء صاخبة من العلاقات الاجتماعية، وبامكانه ان يجعل من عمله سواء في الدائرة الحكومية ام الشركة التجارية او السوق او سائر المدن والاعمال، بل حتى بالنسبة للسيدات (ربات البيوت)، عاملاً لخلق السعادة واكتساب الأمل في الحياة. في حين نرى اعتقاد الغالبية من الناس ان المهم هو قضاء الوقت في تأدية العمل والتخلص منه كيف ما حصل.
يقول أحد الحكماء: (إن الشعوب المحظوظة هي تلك التي عليها القيام بأعمال تتمتع بالقيام بها). حقاً إن مثل هذه الشعوب تكون محظوظة، لانها تتمتع بمزيد من الطاقة ومن السعادة، وبأقل قدر من القلق والإرهاق، فحيث يكمن مصدر الإثارة توجد الطاقة.
وإن اردنا مثالاً بارزاً وملموساً على ذلك، يمكننا استذكار مشاهد الزيارة المليونية التي يزدلف خلالها الزائرون نحو كربلاء المقدسة لزيارة الامام الحسين عليه السلام، لاسيما في زيارة (أربعين الامام الحسين)، حيث تنقل وسائل الاعلام للعالم كيف ان الشيخ الكبير والطفل الصغير والمرأة وحتى المعوّق يقطعون مسافات بعيدة وهم يشعرون بالارتياح والسرور وليس التعب والارهاق او الجوع والعطش، لأنهم يقومون بعمل ينبع من اعماق مشاعرهم و وجدانهم.
الضجر.. الطريق نحو الرشوة
جاء في مقال في هذه الصفحة في وقت سابق، أن ظاهرة (الرشوة) سيئة الصيت، لا تعود في سببها الى مشكلة مالية او معيشية لدى من يطالب بها، فربما يعيش الموظف حياة هانئة وقد تفضّل الله تعالى ببيت يملكه وسيارة ودخل لا بأس به وراتب جيد، لكنه مع ذلك يرتكب هذه الممارسة الشنيعة والمذمومة، والسبب هو الرتابة والضجر في محيط العمل، فهو ليس أمامه سوى الجلوس خلف الطاولة، يضع توقيعه على هذه الورقة او تلك، أم يختم على هذه وتلك، او يضع بعض الاشارات او الارقام التي قد تحتاج الى بعض المعرفة والالمام بالقضايا الرسمية والادارية، لكن تكرارها يجعل صاحبها يشعر بانه معتقل لكن باحترام، فيما يجد أمامه مئات او آلاف المراجعين يتسابقون للوصول اليه والحصول على التوقيع او الختم او غير ذلك ثم لا يلبثوا ان يختفون بسرعة البرق بعد ان تنجز اعمالهم الرسمية ويبقى هو مع الجدران الاربعة لغرفته، لذا فان الضغط على المراجع او تأخيره والتلويح له بالدفع والتسديد، تكون عملية تنفيس عن حالة الملل والضجر المتراكم على نفس البعض من الموظفين الذي ربما يكون بسيطاً في موقعه وربما يكون كبيراً ولامعاً لا فرق، فالحالة والنتيجة واحدة.
من هنا نجد ان تغيير منهج العمل وأسلوب التفكير من الخطوات الاولى نحو القضاء على الضجر والسأم في نفس الانسان للحؤول عن انحرافه نحو المهاوي والمنزلقات. وفي كتابه (كيف تتمتع بالسعادة في حياتك) يورد سماحة آية الله السيد هادي المدرسي (حفظه الله) هذه القصة لشخص امريكي تمكن من التغلّب على الملل والضجر ويحول عمله البسيط الى مسيرة للتطور والتقدم.
بدأ (هاولن هوارد) حياته عاملاً في غسل الأطباق وتنظيف الآلات الحاسبة وغسل آلات البوظة في غرفة الغذاء في المدرسة، فكان يشعر بالملل بينما يرى الصبية الآخرين يلعبون الكرة.
كان هذا الرجل يكره عمله لكن بما أن عليه القيام به، قررّ أن يدرس طرق تحضير البوظة، فدرس ذلك وصار من ألمع الطلاب في هذه المادة. وأصبح مهتماً جداً في كيمياء الغذاء حتى إنه دخل الجامعة وتخصص في علم الغذاء. وعندما قدّمت شركة نيويورك للكاكاو جازة لأفضل بحث عن منافع الكاكاو والشوكولاتا، فإن هذا الرجل هو الذي فاز بها. وعندما وجد صعوبة في إيجاد عمل له، أنشأ مختبراً خاصاً في الطابق السفلي من منزله، وبعد ذلك بقليل، صدر قرار جديد بإحصاء عدد البكتيريا في الحليب وسرعان ما بدأ هارلن هوارد بإحصاء عدد البكتيريا لأربعة عشرة شركة تنتج الحليب، حتى توجب عليه الاستعانة بمساعدين. وبعد خمس وعشرين سنة اصبح هذا الرجل أحد البارزين في اختصاصه، بينما كان أصدقاؤه الذين كان يبيعهم البوظة، يلعنون الحكومة بسبب البطالة ولأنهم لم تتح لهم فرصة العمل. وربما لم تسنح الفرصة أمامه أيضاً لو لم يقرر أن يجعل من عمله الممل عملاً مثيراً ومثمراً).
|
|