الدولة الفاشلة والإصلاح القيادي
|
لطيف القصاب
من الحقائق التي لما تزل مقرة في علوم السياسة ولم يصبها الكثير من التغيير حقيقة اشتمال مفهوم الدولة على إقليم وشعب وحكومة تحظى بالشرعية ومن الوصفات الجاهزة التي ينصح بها حكماء السياسة لإصلاح الدول الفاشلة ما يتمثل بتغيير المنظومة القيمية الخاطئة للشعب المحكوم او للهيئة الحكومية او لكليهما معا، وفي احيان نادرة يأتي الإصلاح أكله بوساطة تغيير في مساحة الإقليم سلبا او إيجابا.
وذلك كله يتم وفقا لظروف واحوال كل دولة مصابة بالفشل او تعاني من ازمات حادة وتنشد الخروج من واقعها المؤلم. وبحسب وقائع التاريخ المعاصر فان بعض الدول التي تجاوزت كبواتها مر طريق الإصلاح فيها عبر تغيير النظرة الشعبية العامة للكون والحياة، وافضل مثال يضرب على هذا الصعيد هو الهند الذي اتسم الطابع الجماهيري فيها طوال عقود متطاولة بالاذعان الذليل للمحتل الاجنبي قبل ان يقيض لها الزمان قائدا ملهما هو المهاتما غاندي الذي اقلع عن عادة لعن الظلام الهندية التقليدية ودأب على إشعال الشموع تلو الشموع حتى استطاع ذات يوم ان يوقظ الحس الهندي العام من سباته الطويل، وحينما أزفت ساعة مصرعه التراجيدية ترك هذا الثائر المسالم نهجا سياسيا متزنا ما تزال له الحظوة والسطوة في قلوب وعقول الشعوب الهندية ومن يحذو حذوها من الدول الناجحة. ومن الدول التي وقعت ضحية سلوكيات قادتها المستهترة بالكون والحياة ألمانيا ايام زعيمها الاوحد ادولف هتلر، لكن شعب هذه الدولة العريقة تخطى بشجاعة فريدة محنته القاسية حينما اصر على استبدال الدكتاتور العسكري بمستشار مدني اي من خلال اصلاح منظومته السياسية المستهترة بقيم التعايش الانساني بأخرى راشدة ومتوازنة.
الدولة العراقية من الدول التي ما فتأت تعيش جو الازمة المتفاقمة بالرغم من فترات زمنية متقطعة شهدت فيها هذه الدولة نوعا من الاستقرار وشيئا من الرفاهيه، واقعيا يصنف العراق في المرحلة الراهنة عالميا في خانة الدول الفاشلة. وهناك من ينحو باللائمة في هذا الفشل الضارب باطنابه في البلد الى عموم الشعب العراقي بدعوى اصابة هؤلاء بأمراض موروثة لاسبيل لنجاح الدولة مع وجودها وشيوعها، ويضرب المتبنون لهذا الرأي بسلبية الفرد العراقي وكسله وجهله وفوضويته وعجرفته امثلة لأمراض العراقيين التي لابد من اقتلاعها من الجذور اولا اذا ما اريد للدولة العراقية ان تصيب شيئا من التقدم والنجاح يوما من الايام. بينما يذهب تيار آخر الى ان الشعب العراقي ليس على هذه الدرجة من التردي بل ان بإمكانه تخطي تحدياته الحاضرة والمستقبلية تماما مثل اي شعب حي آخر لو انه توفر على طبقة حاكمة رشيدة تقدم مصلحة البلد العليا على مصالحها الذاتية.
ترى أي من الفريقين يستند الى رؤية افضل من صاحبه في تشخيص مصدر الفشل الحقيقي الذي يعاني منه العراق؟ هذا ما نحاول التعليق عليه فيما يلي من سطور.
استنساخ الفشل
عاش العراقيون منذ تغيير النظام السابق حالة غير مسبوقة في تاريخه المعاصر من حيث انعدام الامن وسيادة الفوضى وبسبب احتقانات اجتماعية داخلية وتدخلات خارجية ابتلي العراقيون بحرب اهلية ازهقت فيها عشرات الالاف اذا لم نقل مئات الالاف من نفوس سكانه وانتهت ككل الحروب من هذا النوع بمآس قاسية وذكريات رهيبة ومن الناحية الاقتصادية ما يزال يعاني اكثر من ثلث سكان العراق من فقر مدقع بحسب احصائيات رسمية، غير ان هذه التحديات والمخاطر لم تمنع غالبية العراقيين من انجاح ثلاث تجارب سياسية بحدود اجراء الاقتراع واختيار ممثليهم النيابيين أي بحدود الدور المطلوب من الشعب تأديته في نطاق العملية الانتخابية، بالاضافة الى ان التجربة شهدت رجوع اكثر المتخلفين من الانخراط بالعملية السياسية تدريجيا عن آرائهم المعارضة نحو تبني قناعات مغايرة تماما. وعلى صعيد تحقيق مستويات ملحوظة من التقدم العلمي يلاحظ في كل فترة زمنية نبوغ نجوم عراقيين في غير مجال من مجالات المعرفة داخل البلاد ناهيك بمن يعيش في خارجها. وبحسب بعض وجهات النظر العلمية فان الاذكياء في البيئات المتخلفة يناظرون العباقرة في البيئات المتطورة بحساب دور الفارق الذي تلعبه الظروف في خلق او خنق المواهب.
وطبيعي فان اي منصف يراقب هذا المشهد بحياد لابد ان ينتهي الى نتيجة منطقية مفادها ان شعبا بهذه الدرجة من التمزق والانكسار ولم يتلاش فيه الميل للابداع ولمّا يزل يحلم باحلام التغيير نحو يوم افضل وغد افضل، ان شعبا كهذا لا يستحق ان تعلق على شماعته الاخطاء البتة، وليس من قبيل الاتهام المباشر ان يكون مصدر الفشل العراقي هو مجموعة من السياسيين الذين وجدوا انفسهم من غير سابق تخطيط في مواقع الصدارة وبالتالي في مواقع السلطة والنفوذ.
ان علم الادارة يشترط على من يتولى ادارة موقع من المواقع العليا ان يكون على دراية باصغر التفاصيل المتعلقة بشؤون عمله، ولو انا قمنا بإجراء جرد سريع للاغلبية الساحقة ممن تسنموا مناصب عليا في الدولة ابتداء من تاريخ التغيير النظام السياسي السابق لهالنا البون الشاسع بين اختصاص المسؤول وما اُسند ويسند اليه من مسؤوليات وأعمال. ومن المفارقة بمكان ان يستنسخ الساسة الجدد تجربة النظام السابق في منح الرتب والمناصب لغير مستحقيها، والمفارقة الاكبر من الاولى ان تغيب عن الساسة الجدد فكرة إخضاع هؤلاء الممنوحين لدورات تأهيلية مثلما كان يدأب على فعله النظام السابق على علاته وسوءاته التي لا حصر لها. ان غياب التدرج الوظيفي في شخص المسؤول هو من اكبر العوامل المؤدية الى فشل هذا المسؤول بانجاز ما يعهد اليه من مهام، فحتى اكثر المسؤولين نزاهة لابد ان يقع فريسة لخطط المفسدين اذا لم يكن من اهل الخبرة والاختصاص في مجال مسؤولياته، فاذا اضفنا الى ذلك نفرة اكثر المسؤولين من اصحاب الاختصاصات العلمية وعدم اهتمامهم بجمع مستشارين امناء من حولهم، والاستعاضة بمجاميع من المتملقين لأدركنا حينئذ عظم الورطة التي يقع فيها هذا المسؤول او ذاك وبالتالي عظم الحصة من رقعة الخرق الذي يمكن لكل مسؤول ان يتسبب باحداثها من حيث يدري ولايدري.
وعليه فان اصلاح الاعوجاج في المنظومة السياسية يحتاج الى ايد ماهرة من لدن السياسيين انفسهم تقوم على خياطة ما احدثوه من شقوق في الجسد العراقي الطري، ليس من خلال تقديم استقالات جماعية مثلما يطالب به الراديكاليون لعدم واقعية هذا الطرح من جانب وعدم وجود مهاتما عراقي يستطيع مساواة العراقيين بالهنود من جانب اخر، وليس من خلال احلال القيادات الادارية محل القيادات السياسية فهذا مما لاسبيل لتصوره في المرحلة الحالية على الاقل، ولكن من خلال ايجاد تكييفات قانونية تجبر المسؤول السياسي على الاخذ باراء ذوي العقول والعلوم وكل بحسب مجاله الاداري والفني، حتى اذا بدا من هؤلاء نقد موجع، فان مثل النصيحة الصادقة مثل العلاج المر تهون مرارته في سبيل الظفر بالصحة والعافية.
ومن دون الإذعان الى هذا الحل السحري من لدن السياسيين فان هؤلاء هم من يتحملون وحدهم وزر السلبية والكسل والفوضى والعجرفة وبالتالي جميع مظاهر الفشل وليس عموم المواطنين الابرياء.
|
|