قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

شعوبنا تدفع ثمن فقدان الحكام (الفقاهة) في العلم و(العدالة) في العمل
*كريم الموسوي
لو نظرنا الى مسلسل الاحداث المتلاحقة على الساحة العربية، وكيف ان الشعوب هاجت وماجت على حكامها بعد عقود من الديكتاتورية والطغيان والانحراف عن القيم والقوانين، لتبادر الى اذهاننا ان الفترة الطويلة الماضية ربما كانت قدراً مكتوباً على هذه الشعوب المسلمة التي تحمل بين جنباتها القرآن الكريم وسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله. لكن هذا التصور يجانب الحقيقة، بل يتطاول عليها لأنها مغيبة من زمن بعيد. فمسألة الحكم ابتعدت كثيراً في تفسير مفهومها وتطبيقها عن الرؤية الاسلامية المتكاملة. ورغم ما قيل في الفترة الماضية، حيث كان الحكام الساقطون منهم والمنتظرون دورهم، ينعمون بهدوء التسطيح في الوعي والغفلة عن الحقائق. لكن الترويج للعلمانية والليبرالية لم يمنع من ظهور مساوئ نظام الحكم البعيد عن أسس النظام الاسلامي، فها نحن نشهد – كما تشهد الشعوب الثائرة- حالات السرقة بالمليارات من أموال الشعوب الى جانب حالات انتهاك الحقوق والحرمات وإراقة الدماء. إذن؛ لماذا يجب ان ننتظر لهذا الحاكم ثلاثين عاماً كاملة حتى نثور عليه ويسقط، او ننتظر لآخر نيفاً وعشرين سنة، أو آخر اربعون سنة....؟
لماذا الحاجة الى (الفقيه) و(العادل)؟
إن البشر يحتاج لادارة نفسه وتوفير السعادة لها إلى (علم) يعرفه بواقعه وواقع علاقاته وحاجياته وخير الطرق لاشباعهما وتوجيههما، ثم إلى (عمل) يطبّق به هذا العلم. وبما ان الناس يعجزون عن معرفة انفسهم وما يحتاجون اليه بكل دقة وعمق فهم يلتمسون هدى الله الذي يبعثه اليهم مع رسله المكرمين، ويضع لهم به أفضل المناهج (العلمية) لحياة البشر، ومعرفة هذه المناهج بصورة مستوعبة تدعي بـ (الفقه)، ولكن بما أن هذه المناهج لا تكفي وحدها إن لم يخلع عليها لباس العمل، فان الناس بحاجة إلى تطبيقها عملياً، ومتى ما طبق فرد منهاج الدين كاملاً غيرمنقوص دُعي بـ (العادل). فاذا كان الفرد (فقيهاً) و (عادلاً) كان احسن الناس لادارة الحياة، ادارة لا عوج فيها ولا سقوط ولا انتكاس. أما إذا كان القائد (جاهلاً) بالدين فهو لا يعرف المنهج الفاضل والكامل الذي يعطي الانسان سعادته، وفلاحه في الدنيا والآخرة. كما ان العالم (الفقيه) الفاقد للعدالة، فان فسقه يدفعه لتلبية رغباته ومصالحه، فما يغنيه ألف ارشاد وألف تهديد، ذلك لأنه كلما وجد ثغرات في السلطة نفذ من خلالها إلى مآربه ساحقاً في طريقه كل القيم وكل الاعراف والمناهج.
وهنا حصلت المشكلة لدى الشعوب الاسلامية في اتجاهين: الأول؛ ميولها ولأسباب وعوامل كثيرة الى حيث نزوات ونزعات الحكام، والثاني؛ خضوعها بشكل او بآخر لمناهج بشرية مليئة بالشوائب والثغرات والتناقضات، أقلها تنصلها من مسؤولية العواقب السيئة والمآلات المدمرة التي يقع فيها الانسان المتأثر بها. ولعل الحديث بين فترة وأخرى عن ايجابيات هذا الحاكم او ذاك حتى وان كان ظالماً او منحرفاً، يصبّ في ابعاد صفتي العلم بالدين (الفقه) و العمل الصالح (العدالة) عن الحاكم.
المائز بين الحاكم الاسلامي وغيره
ان للمفارقات التي تميز النظام الاسلامي عن غير الاسلامي في مجال (القيادة) اهمية كبرى بالغة، لانها تقرر مصير هذه القيادة، وتعكس ناحية الميوعة والانحلال فيها او ناحية الضبط والالتزام. وتتقرر- بمصير القيادة- نهاية الأمة، إما الزوال والتحطيم والدمار، او الخلود والسعادة والأمل. كما وتتقرر- بنهاية الأمة – حقيقة النظام الموجه لتلك القيادة والأمة، إما الصلاحية والواقعية التي يريدها الاسلام، او الطوبائية والفساد، كسائر النظم البشرية الوضعية.
وهذه المفارقات نوعان: ما نفارق به الاسلام عن غيره، ومقياسنا – هنا – الوجدان، وشهادة وقائع الحياة واحداثها، وما نفارق به بين نظرية اسلامية واخرى، ومقياسنا- في هذا الحال- هو حكم الشريعة. وليست القيادة الاسلامية كالقيادات البشرية، تحدد الكفاءة (العلمية) والامانة (العملية) بابتداء تسنّم القائد لمركزه، تاركة اياه بعد ذلك في حرم منيع وحصانة تمنع عنه أي نقد واعتراض. إنما (الفقه) كفاءة لابد أن تستمر مثل (العدالة) فلو فقد القائد كفائته، أو عدالته، فقد معها كل صلاحياته فوراً، وترجع اليه هذه الصلاحيات متى رجع اليه ما فقدها، ورجعت اليه الأمة بكامل حريتها.
بل ويذهب الفقه الاسلامي، خطوةً أبعد واعمق من هذا، حينما يحكم بافتقاد القائد الأعلى صلاحيته بمجرد أصابته بطائف خاطف من (الجنون) و (الأغماء) كل ذلك لكي تبقى القيادة في أمان من التأثر بالقائد، ولا يبقى القائد في أمان من القيادة، ونحن نسأل من الذين يجعلون القائد الاعلى في حرم لا يقترب إليه ذو اعتراض، وهم كانوا يشترطون (الكفاءة والامانة) قبل أن يدخله فنقول لهم: هل كانت لكم حاجة إلى اشتراط الكفاءة والامانة، قبل أن تسوّدوا على انفسكم هذا الشخص؟ فان قالوا: لا، قلنا: فعلى قلوبكم العفا!! وان قالوا نعم. قلنا: هل تحقق المقصود بمجرد وجودهما قبيل التصدي للحكم؟
لابد ان تقول: كلا، إذ أن الكفاءة إنما اعتبرت لأن الادارة بدونها قوة بلا توجيه، او توجيه بلا قوة، واذن فهي أحرى باسم (الفوضى) من عنوان الادارة والقيادة. واشترطت الأمانة لتحفظ التوجيه والقوة في خط السعادة المستقيم الصاعد، وتضمن عدم انحرافهما عن الطريق الصحيح.
ثم هل تحققت الغاية المنشودة من وراء اشتراط الكفاءة والامانة ان كانت الادارة والحاجة اليها قد انتهت في الساعة الاولى من تسلّم القائد؟ وهل يكفي باشتراطها في الساعة الاولى فقط؟ وإلاّ- وهو المسلمّ طبعاً- ما هو الفرق بين الساعة الأولى والساعة الأخيرة بالنسبة إلى الادارة؟ وهل إن القرارات قد اتخذت في الساعة الاولى وانتهى الأمر لتنتهي في هذه الصورة وظيفة الشروط التي جعلت لسلامتها، ولكي تحصنها عن الاعوجاج؟!
بهذا البيان الموجز، نفقه أبعاد اشتراط الاسلام لـ (الفقه والعدالة) اشتراطاً دائمياً، كالحياة المستمرة. كما نفقه عمق نظرة الاسلام إلى المواضيع ومدى واقعيته، في تناول قضايا الحياة. ذلك ان اشتراط (الدوام) في مؤهلات القائد العام، وفي شرطي الكفاءة الفقهية والامانة العملية بصورة خاصة، يعطي القيادة الاسلامية طابعاً خاصاً يميزها بل ويرفعها إلى مستوى القمة بين سائر الصيغ القيادية التي تهبط بها الميوعة القيادية إلى حضيض البهيمية السافلة، ذلك أن علماء النفس والاجتماع والتاريخ يعرفون ويعترفون بمدى خطورة رفع العقاب العاجل عن نفس بشرية مهما كانت وضيعة الشأن ضئيلة القوى، فكيف اذا كانت تلك النفس هي القائد التي تثيرها الاغراءات الكبيرة، وتطغى بها القوة والشهوة والثروة والسلطة.
ان السلطة المطلقة مُفسدة لاصغر الناس شأنا، واحقرهم مكاناً فكيف باكبرهم واقدرهم. وان انهيار فرد عادي من قمة الضبط والالتزام إلى هاوية الميوعة والفوضى ليس بذي خطر بالغ عليه، يهدد حياته بالتحطيم إلى الابد، بل انه يشكل خطراً على المجتمع يهدد حياتهم بمزيد من القلق والاضطرابات، فكيف اذا تحقق الانهيار بالنسبة إلى القائد وبيده مصائر الناس ومقدراتهم وشؤونهم؟
واذا وجب جعل عقاب صارم يضبط القائد، فليس للقائد عقاب يضبط مثل عقاب (التجريد عن صلاحياته) وردّه رجلاً عادياً تمتصه عيون الازدراء، وتلاحقه ألسنة السخرية. وعليه فان (استمرارية) الكفاءة والأمانة (او الفقه والعدالة) في المؤهلات المشترطة للقائد، قاعدة صلبة لاتتزلزل عليها القيادة ولا تميد، لا تنحرف ولا تحيد.