قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

ملامح الثقافة السليمة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزالدين
من الطبيعي أننا لا نستطيع الاطمئنان الى سلامة جسم شخص دون اجراء الفحوصات الطبية كافة، وتحقيق جميع الاختبارات في التحليلات لتؤكد لنا خلو الجسم من أي مرض وأي مكروب قد يسببه في المستقبل. كذلك لا نضمن سلامة الثقافة الا بعد التأكد من خلوها من الامراض بل ومن بذورها الخفية.
إذن؛ لنبحث عن مقاييس تكشف لنا عن الامراض الثقافية قبل ان نحاول تحديد ملامح الثقافة السليمة، فما هي هذه المقاييس ؟
هناك طريقتان في الطب الحديث تكشف المريض الجسدي: طريقة التحليل، وطريقة الملاحظة.
في طريقة التحليل ينبغي ان نجزئ الشيء الواحد الى أصغر وحدة ممكنة، ثم نلاحظ آثار الوحدات، وبجمعها وملاحظة النسبة بينها نكشف عن طبيعتها، بينما في طريقة الملاحظة نركز مباشرة على آثار المجموع دون تجزئته ؛ فمثلا في حالة إصابة الرأس بصداع شديد.. قد يستخدم الطبيب طريقة الملاحظة فيسأل المريض عن آثار الصداع، ويكشف بها نوعية المرض، بينما يستعين بطريقة التحليل في احيان اخرى فيحتاج الاستعانة بالمختبرات لتحليل دم المريض أو ادراره، اذ بدون ذلك لا يمكنه تمييز طبيعة المرض.
إن فهم هاتين الطريقتين أمر ضروري لمعرفة المرض الثقافي، إذ قد نكتفي فيه بنظرة موضوعية الى الثقافة كمجموع بينما نحتاج احياناً الى تفكيك الظاهرة الثقافية الى جزئيات صغيرة لمعرفة الخلل الكامن فيه.
ومن خلال الملاحظة العامة لمجموع الثقافة، نستطيع ان نكتشف مواطن الخلل وايضاً الايجابيات بالنظر الى دور العوامل الخارجية التي قد تؤثر في مسيرة الثقافة. فانطلاقة المجتمع الاسلامي في فجرها الباكر كانت أبرز سمات السلامة في الثقافة القرآنية. بينما الجمود الذي ساد القرن الرابع بعد الهجرة، يُعد السمة البارزة للمرض الثقافي الذي انطوى عليه ذلك المجتمع. وكما ان طيب الزهرة افضل دليل على سلامتها، فإن تقدم المجتمع هو الاخر اظهر دليل على سلامة ثقافته.
ولكن لا يمكن قياس الثقافات الاسلامية المستجدة بما نلاحظه من جمود الجماعات المسلمة، لان العوامل الخارجية من استعمار وتخلف ورجعية ذات آثار عظيمة على مجتمعنا الراهن .
أما طريقة التحليل فيمكن اتباعها في الثقافة الاجتماعية كما هي متبعة في علم البيولوجيا، وذلك بتفكيك الظاهرة ورصد العناصر المريضة فيها والتي تجمعها باللامسؤولية واللاالتزام فتلك الفكرة التي تؤلّه جهازاً اجتماعياً كرجال السياسة أو المال، تُعد من الافكار والظواهر المرضية لانها تشل الارادة البشرية، وتقتل روح التحدي فيها . وابرز الامثلة الحديثة على ذلك؛ محاولات الصهيونية شل الارادة العربية عن طريق بث الافكار التعجيزية عبر اجهزتهم الاعلامية الخاصة، ففي الماضي كان للكتاب والمجلة والصحيفة دور كبير في تضخيم العدو أمام عيون الشعوب الاسلامية لمزيد من الاستضعاف وتكريس الشعور بالعجز والهوان. لذا كان الحديث الطويل العريض عن (المخابرات الاسرائيلية)، و(الاساطيل الامريكية)، وما تمتلكه امريكا من تكنولوجيا عسكرية ومدنية فائقة وقاهرة....! والمثير أن دور النشر العربية شاركت في هذا التضليل من حيث لا تدري – ربما- من خلال طبع ونشر كتب مثل (بروتوكولات حكماء صهيون)، بداعي انه يكشف حقيقة اليهود وانهم يفعلون كل شيء لتحقيق هيمنتهم على العالم، وهذه مسألة لا تعد مثلبة على اليهود والصهاينة، فهو دأبهم منذ عهد الانبياء على مر التاريخ، لكن ما يستخلصه القارئ أن (اسرائيل) اليوم بيدها كل مقدرات الشعوب في العالم. وهنا مربط الفرس.
من هنا لا يجب ان تفلت الافكار الجزئية الصغيرة من مجهر الراصد الذي يريد تحليل الثقافة الى اجزاء ثم كشف الفيروسات وعوامل المرض فيها .
هكذا نستطيع كشف زيف الثقافة، ولكن ما هي ملامح الثقافة السليمة ؟
ابرز سمات السلامة في الثقافة قدرتها على توظيف جميع الامكانات البشرية في خدمة التقدم والرفاه. فالعاطفة يجب ان تستمر جنبا الى جنب مع العقل، اذ هما اعظم طاقتين في الانسان، بيد ان الثقافة السليمة هي التي تعرف كيف تضع النفس البشرية في محور متوازن بين العقل والعاطفة.. حتى لا يلفها جمود العقل ولا تقتلها ثورة العاطفة. والتوجيه الثقافي مسؤول هو الآخر عن مقدار استخدامه لاحدى الطاقتين بحيث لا تطغى على الثانية فتدمر الحياة .
لقد كانت الثقافة الالمانية قبيل الحرب العالمية الثانية مشبعة للتخمة بالعاطفة، فاندفعت في اتجاه خطير، ونشرت الدمار على الارض، بينما كانت الثقافة الفرنسية بالعكس تماما، فانهارت فرنسا هي الاخرى . ان العاطفة ضرورة بالغة لأمة تواجه خطراً داخلياً او خارجياً، ولكنها ليست كافية، اذ انها كالمياه المتفجرة اذا لم تجد لها مجاري فانها تتحول الى سيول عاتية، والمقاييس العقلية هي التي تحفر المجاري الضرورية لاستيعاب تفجر العاطفة، ثم توظيفها في الخير والرفاه .
وفي الثقافة الاسلامية منابع عديدة للعاطفة، فقصص الجهاد الاسلامي منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحتى اليوم، والسير المضيئة التي نجدها في التأريخ الاسلامي أفضل مولد للعاطفة لدى الامة، ولكن هل تكفي العاطفة للنهضة الشاملة ؟ كلا؛ بل في الاسلام ايضا مقاييس عقلية دقيقة جاء بها الوحي القرآني الحق، ويتبعها المسلمون جميعاً .