مهيار الدّيلمي
الشاعر الذي اكتشف الحقيقة فاعتنقها
|
منذر الخفاجي
مثلما لا تنمو النبتة أو تثمر إلا إذا وجدت الارض المناسبة لها فقد لا يقدّر لانسان أن يكتشف نفسه وحقيقتها إلا إذا وجد من يجلو عنها غياهبها لتظهر جلية ناصعة. هكذا كان حال شاعرنا مهيار الديلمي في صحبته للسيد الشريف الرضي وتلمذته عليه فقد كان الشريف تلك الارض الخصبة التي احتضنت بذرة مهيار فنمت وترعرعت في ظله وكنفه حتى اكتشفت قدراتها. لقد قيّض لمهيار أن يلتقي بالشريف ليجد فيه ضالته التي يبحث عنها فلازمه وتتلمذ عليه وترك مجوسيته وأسلم على يديه واعتنق مذهبه فتملّك التشيع شغاف قلبه وخالط لحمه ودمه فجنّد نفسه جندياً اميناً ومدافعاً مخلصاً عن مذهبه العلوي. ولعل السبب في ذلك يعود الى أن النفوس النيرة تنعكس على ذاتها فتخرج تأملاتها قولاً وفعلاً وشعراً. هكذا كان حال مهيار عندما تعرف أهل الادب في العقد الاخير من القرن الرابع الهجري على شاعر فارسي الاصل ترك دين المجوس واعتنق الاسلام عن طريق أهل البيت (ع) ليشق طريقه في عالم الأدب والشعر وهو ثابت الايمان، راسخ العقيدة.
ولد أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي البغدادي عام 334 هـ في عصر يموج بالاضطرابات السياسية والاجتماعية والفكرية حيث المشاحنات والمنازعات قائمة على قدم وساق. ولكن رغم هذا الوسط الموبوء ورغم هذه الفوضى والاضطرابات وضعف السلطة فقد كان هناك قبس ينير هذه الظلمات تمثل في نفر من اعلام الفكر والادب ففي ذلك الوقت نبغ الشيخ الرئيس ابن سينا والمتنبي والصابي وابن نباتة والمرتضى والرضي ومهيار الديلمي الذي اصبح الشاعر الوحيد بعد وفاة الرضي. ينتسب مهيار الى ارض الديلم، قال ياقوت الحموي: (إن الديلم ينسبون الى ارضهم بهذا الاسم لا إلى أب لهم) والديلم شعب من ذراري الفرس ينسبون إلى ارضهم التي تقع في القسم الشمالي من بلاد فارس ويحدّها من الشمال جبال الجولان ومن الشرق طبرستان ومن الغرب آذربيجان أما من الجنوب فمنطقة قزوين وفي هذه المنطقة (قزوين) عاش والدا مهيار وكانا فقيرين فنزحا في طلب الرزق الى بغداد التي كانت خاضعة يومئذ للنفوذ البويهي وكانت الخلافة العباسية تعيش حالة الاحتضار. والبويهيون ديالمة فأرتقب الوالد خيراً في ظل بني عمه فهو الذي تربطه بهم وشائج القربى. وكان البويهيون اسبق الى الاسلام من والد مهيار إذ كانوا مجوساً إلى أن بايعوا عليهم الحسين بن زيد العلوي سنة 250 هـ فأسلم قسم منهم وأسلم القسم الثاني على يد علوي آخر وهو الحسن بن علي الاطروش. لم يحالف الحظ والدي مهيار في توفير لقمة العيش لابنهما الذي لم يكن بأسعد حظ من ابيه فلازمه الشقاء منذ طفولته وحتى شبابه وسقاه الدهر كأس المرارة حتى الثمالة فكان مهيار يشكو الدهر والفقر والناس:
عيش كلا عيشٍ ونفسٌ مالها من لذّةِ الدنيا سوى حسراتِها
إن كان عندك يا زمان بقية مما يضامُ بها الكرام فهاتِها
وقد رأى والده بعد أن أعياه توفير حياة رغيدة لولده أن السبيل إلى ذلك لن يكون إلا عن طريق العلم فأكب على تثقيف ولده. وكانت بغداد في ذلك الوقت جنة الدنيا وبهجة الناس أو كما قيل: (بغداد في البلاد كالاستاذ في العباد) وموارد الرزق فيها للفئة المثقفة فهي دور الخلفاء ودوائرهم إن صح التعبير ففي تصور الخلفاء والامراء كانت تلتقي النخبة من الكتاب والشعراء ليصيبوا حظاً وافراً من الثروة والشهرة وهذا ما كانت تصبو إليه نفس مرزويه فدفع بولده مهيار الى الكتاتيب والمدارس الموجودة في بغداد ليتثقف ابنه ثقافة عربية خالصة تكون سبيله إلى العيش في الحياة. وأظهر مهيار ذكاء وقدرة على العلم فاقت تصورات والده حيث ألمّ بكثير من شوارد اللغة وحفظ دقائق التاريخ وامتاز بذاكرة عجيبة ساعدته على استيعاب الكثير من المعرفة ولكن ظن مرزويه خاب في السبيل الذي سلكه ابنه إذ كان الوالد يتوقع ابنه أن يكون من شعراء البلاط العباسي يرخص كرامته ويتذلل في سبيل المال ويستعطف ويتودد الخلفاء والامراء. لكن مهياراً آثر طريقاً آخر هو طريق العقيدة والمبدأ طريق نصرة الدين والحق فقد استحكم حب أهل البيت (ع) في قلبه فلم يمدح أياً من الخلفاء العباسيين الذين عاصرهم وهم الطائع والقادر والقائم بل أظهر حق أمير المؤمنين (ع) في شعره مستقياً من حياته (ع) المعارك التي خاضها في سبيل توطيد أركان الدين واختص (ع) بها دون سواه من سائر الصحابة وكذلك تمجيد الثورة المباركة التي قادها ابو الاحرار الإمام الحسين (ع) في كربلاء ضد الباطل واستذكار المآسي والفجائع التي حلت بأهل البيت (ع). ويرجع كل ذلك الى التأثير الكبير الذي طرأ عليه، ففي فترة تعليمه وتثقيفه اتصل بالشريف الرضي وهو أهم حادث أثر في شخصيته وشاعريته على السواء فالشريف يومذاك حجة الأدباء والاشراف ونقيب الطالبيين وأمير الحاج وكان كريماً محبوباً لدى كل طبقات الناس وله هيبة في النفوس تتضاءل عندها هيبة الخلفاء والأمراء فأثر في نفس مهيار كثيراً ولقد أحب الشريف مهياراً واخذ يسعى في سبيل خدمته والاحسان إليه فسعى بما له من منزلة في إلحاق مهيار كاتباً بديوان الخلافة ببغداد ولكن مهياراً سرعان ما صرفه عن الكتابة الشعر الذي ملك نفسه وكان الشريف يتوسم في مهيار الذكاء والنبوغ والشاعرية فكان يغدق عليه من احسانه وفضله فأسلم مهيار على يديه واعتنق التشيع واصبح المدافع الذي يتقد حماساًَ عن دينه ومذهبه وبقي مهيار في كنف استاذه الشريف إلى أن لاقى الشريف ربه عام 406 هـ وكان طوال حياته الحامي الامين والصديق المعين لمهيار وقد أحسّ شاعرنا بالفجيعة التي ألّمت به فمضى يرثي استاذه برثائيات مفجعة في قصائد عديدة وفي مناسبات شتى، قال في احداها:
أقريش لا لفمٍ أراكِ ولا يدِ فتواكلي غاض الندى وخلا الندي
بكر النعي فقال: أُردي خيرها إن كان يصدقُ فالشريف هو الردي
وفي هذه القصيدة تفجّع أليم وشعور بالمصاب عظيم فمهيار يبكي من كان عونه وساعده في الحياة لكن مهياراً بعد وفاة الشريف الرضي وابن نباتة السعدي اصبح رجل الادب والشعر في بغداد بدون منازع. حتى عدّ في الرعيل الاول من ناشري لغة الضاد وموطّدي أسسها قال عنه الباخرزي في دمية القصر ص76: (هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر وكاتب تحت كل كلمة من كلماته كاعب وما في قصائده بيت يتحكم عليه بلو وليت وهي مصبوبة في قوالب القلوب وبمثلها يعتذر الدهر المذنب عن الذنوب) ويقول عنه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج13 ص267 إنه: (كان شاعراً جزل القول، مقدماً على اهل عصره) وهناك الكثير من الكلمات في حقه في الكثير من المصادر والمراجع اللغوية والتاريخية. أسلم مهيار عام 394 هـ وكان هواه علوياً شيعياً قبل أن يسلم فكان التشيع مرقاته إلى الاسلام الصحيح فهو قد ولج الاسلام من بابه الواسع وسلك طريقه اللاهب. وله من قصيدة قالها عام 387 هـ أي قبل أن يسلم بسبعة أعوام:
ما برحت مظلمة دنياكم حتى أضاء كوكب من هاشمِ
حللتمُ بهديه ويُمنهِ بعد الوهادِ في ذرى العواصمِ
ثم قضى مسلّما من ريبةٍ فلم يكن من عذركم بسالمِ
نقضتُم عهوده في أهله وحلتُم عن سُنن المراسمِ
وقد شهدتم مقتل ابن عمه خير مصلٍّ بعده وصائمِ
وما استحلَّ باغياً إمامكم يزيد بالطف من ابن فاطمِ
فهو يتضح لنا من هذه الابيات أنه يتلهف على قتلى أهل البيت (ع) ويذم الذين نكلوا بهم من اعدائهم وقبل أن يسلم بعامين أي سنة 392 هـ كتب قصيدة ضمّنها حقيقة شعوره نحو أمير المؤمنين واولاده الائمة الطاهرين (ع) فقال:
جوى كلما استخفى بنجدٍ هاجه سنا بارقٍ من أرض كوفان خاطفِ
يذكرني مثوى عليٍ كأنني سمعت بذاك الرزءِ صيحة هاتفِ
أبا حسن إن انكروا الحق واضحاً على أنه والله انكار عارفِ
أ خصّك بالتفضيل إلا لعلمه بعجزهمُ عن بعض تلك المواقفِ
سلام على الاسلام بعدك إنهم يسومونه بالجورِ خطةَ خاسفِ
هواكم هو الدنيا واعلم أنه يبيّض يوم الحشر سود الصحائفِ
وهكذا يتبين أن مهياراً لم يدخل الاسلام إلا بعد أن عرف أهله ولم يتخذ الدين وسيلة للوصول الى غاية ما كما زعم بعض الكتاب من الذين حاولوا تشويه صورة مهيار لا لشيء سوى لأنه عرف الحق فاتبعه ووجد الطريق فسلكه فغاظهم ولاءه الخالص لاهل البيت الطاهرين (ع). فما إن اعتنق الاسلام حتى زهي سروراً كبيراً ويتضح ذلك من خلال هذين البيتين:
هو المنقذي من شرك قومي وباعثي على الرشد أُصفي هواي محمدا
وتارك بيت النار يبكي شراره عليَّ دما إن صار بيتي مسجدا
فدخل مهيار الاسلام دخول الواثق المطمئن بل أنه يفخر بذلك ويعتقد أنه خير دين ونرى ذلك من خلال احدى قصائده الكثيرة في هذا المجال حيث يقول:
قد قبست المجد من خير أبِ وقبستُ الدين من خير نبي
وضممتُ الفخر من أطرافه سؤدد الفرس ودين العربِ
وهناك قصيدة لها دلالة واضحة على هذه الغبطة العظيمة الصادقة التي شعر بها بانتقاله من دين الكفر الى دين الايمان ومذهب الحق فقال مخاطباً قومه:
تبدّلت من ناركم ربها وخبث مواقدها الخلد طيبا
افيئوا فقد وعد الله في ضلالة مثلكم أن يتوبا
وإلا هلموا أُباهيكم فمن قام والفخر قامَ المصيبا
أمثل محمد المصطفى إذا الحكم وليتموه لبيبا
أما شعره في التشيع فكان برهنة وحججاً على أحقية ومظلومية أهل البيت (ع) فلا تجد فيه إلا حجة دامغة أو دليلاً قاطعاً أو ثناءً صادقاً أو تظلماً مفجعاً صبها في اسلوب رصين وقصد مبتكر وتصوير بارع وضع مهيار في مصاف شعراء الشيعة الكبار امثال السيد الحميري والكميت ودعبل فمن قصيدة له يمدح أهل البيت يقول:
بآل علي صروف الزمان بسطن لساني لذمِ الصروفِ
مصابي على بعد داري بهم مصاب الاليف بفقد الاليفِ
وليس صديقي غير الحزين ليوم الحسين وغير الاسيفِ
هو الغصن كان كميناً فهبّ لدى كربلاء بريح عصوفِ
قتيل به ثار غل النفوس كما نغر الجرح حكّ القروفِ
ومن قصيدة يذكر فيها امر الخلافة وما جرى بعد وفاة الرسول توضح اعتقاده:
هذي قضايا رسول الله مهملة غدراً وشمل رسول الله منصدعُ
والناس للعهد مالاقوا وما قربوا وللخيانة ما غابوا وما شسعوا
وآله وهم آل الإله وهم رعاة ذا الدين ضيموا بعده ورُعُوا
وبين مقتنص بالمكر يخدعه عن آجلٍ عاجلٌ حلو فينخدعُ
وقائل لي: عليٌ كان وارثه بالنص منه، فهل أعطوه أم منعوا
وهي قصيد طويلة يقول فيها ايضاً:
بأي حكم بنوه يتبعوكمُ وفخركم أنكم صحبٌ له تبعُ
وكيف ضاقت على الاهلين تربته وللاجانب في جنبيه مضطجَعُ
وكان مهيار شديد الحب للإمام الحسين (ع) الشهيد بكربلاء فاذا ما تكلم عن مأساته جاء بالشعر البليغ المؤثر ولا عجب من ذلك (فصادق الحب يملي صادق الكلم) كما يقال فقصائده في الحسين تزخر بالعاطفة الجياشة والحزن والاسى فمن ذلك قوله:
أ تحمل فقدك ذاك العظيم جوارح جسمي هذا الضعيف
كأن ضريحك زهر الربيع هبّت عليه نسيم الخريف
احبكمُ ما سعى طائف وحنّت مطوّقة في الهتوف
والقصائد في ذكرى يوم الطف وذكر الحسين (ع) ومقتله كثيرة لدى مهيار تفجع فيها وتألم ومن روائع قوله في ذلك:
وشهيد بالطف أبكى السماوات وكادت له تزول الجبالُ
يا غليلي وقد حرّم الماء عليه وهو الشراب الحلالُ
لم تنج الكهول ولا الشبّانُ زهد ولا نجا الاطفال
وبلغ من حبه لأهل البيت (ع) أن يجد صلة تربطه بهم ليفخر بها وهذه الصلة يرده الى جذور قديمة حيث يرجعها الى سلمان الفارسي الصحابي الجليل الذي كان موالياً لأمير المؤمنين (ع) والى ذلك يشير مهيار بقوله:
علاقة لي بكم سابقة لمجد سلمان إليكم تتصلْ
هذه العلاقة رددها في كثير من المواضع في شعره ليدل على اخلاصه الصادق وولائه المحض وعقيدته الراسخة وحبه لأهل البيت (ع):
سلمان فيها شفيعي وهو منك إذا الآباء عندك في ابنائهم شفعوا
لقد اخلص مهيار لأهل البيت (ع) رغم كونه من غير قومهم ولكن الشريف كما يقول يحن الى الشريف:
وإن كنت من فارس فالشريف معتلق وده بالشريف
والكريم بطبعه يجد الكرام الابعدين أدانيا:
هذا لهم والقوم لا قومي هم جنساً وعقر ديارهم لا داريا
إلا المحبة فالكريم بطبعه يجد الكرام الابعدين أدانيا
ويعترف بفضل أهل البيت (ع) عليه بعد أن اهتدى بهداهم الى الاسلام:
وفيكم ودادي وديني معاً وأن كان في فارس مولدي
خصمتُ ضلالي بكم فاهتديت ولولاكمُ لم أكن اهتدي
وجردتموني وقد كنت في يد الشرك كالصارم المغمدِ
وما فاتني نصركم باللسان إذا فاتني نصركم باليدِ
كان مهيار غزير المادة قل من جاراه من شعراء العربية في كثرة شعره سوى ابن الرومي وان كان ابن الرومي يقصر عنه في بعض الاحيان ولا يجاريه في نفسه الطويل فكانت بعض قصائده تقارب الثلاثمائة بيت وهكذا اجتمع لديه ديوان ضخم في أربعة أجزاء جمع بين دفتيه (20969) بيتاً موزعة على (409) قصيدة دلت على شاعرية فذة وابداع اصيل فتربع على رأس الحركة الادبية في أواخر القرن الرابع الهجري وحتى وفاته عام 428 هـ.
|
|