محاضرة يلقيها.. سَمَاحَةُ المَرجِعِ الدّيني آيةُ اللهِ العُظمى السَيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسِي
صفات إيمانية للوصول الى المجتمع المتكامل
|
إعداد / ضياء باقر
بسم الله الرحمن الرحيم
"وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ* إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ* وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الانبياء/ 105، 106، 107)
آمنا بالله.. صدق الله العلي العظيم
لقد خلقَ اللهُ الانسانَ في احسنِ تقويمٍ وفطره على حب التسامي والتكامل والعروج أبداً الى الله سبحانه وتعالى، وقد بين الباري (عز وجل) ذلك في قوله: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ" فالكدح الدائم من الإنسان الى الله والى تلك الذرى العالية من اسمائه الحسنى، صفةٌ فُطر الناس عليها، ولعل هذه الصفة هي التي اصبحت وقوداً لحركة البشر نحو الأمام وتكامله الروحي والمادي باستمرار، ومن نعم الله على الإنسان أنه جعل له قدوات من النبيين والصديقين والصالحين من عباده ليكونوا هم الأسوة الحسنة في طريق التكامل؛ فالإنسان قد يعتريه شك بأنه يستطيع أن يتكامل وأن يصل الى هذه القمم العالية، ولكنه حينما ينظر الى التاريخ وإلى الذين حوله من أولئك الذين سبقوه بالإيمان وعرجوا بانفسهم وتساموا وتكاملوا فإنه يبدل الشك ويزداد ثقة بنفسه واعتماداً على ربه وتوكلاً عليه ومن ثم الصعود باستمرار، فالنبيون والصديقون والشهداء والصالحون والسابقون الى المكرمات هم في الحقيقة طلائع البشرية في سبيل التكامل والتسامي، وهذا التسامي والتكامل ليس خاصاً ببعد مادي او معنوي واحد وإنما يشمل جميع أبعاد الحياة البشرية، ومن هذه الابعاد الاساسية هو بعد التكامل نحو بناء المجتمع الفاضل.
*البحث عن المجتمع المتكامل*
الانسان يدغدغ ضميره بحلم بأن يعيش في مجتمع متكامل لا ظلم فيه ولا تمايز بغير حق ويسوده الأمن ويسود أبناءه الهدوء والطمأنينة والسكينة، هذا الحلم أو الأمنية أيضاً تدغدغ ضمير البشر، فجاءت الحركات التغييرية الإصلاحية بمختلف مبادئها وألوانها، نتيجة لهذا الحلم، لذا نجد الإنسان يريد ابداً ان ينتقل بنفسه ومجتمعه ونظامه السياسي والاجتماعي والثقافي وغيره الى الافضل ثم الافضل، و ربنا سبحانه جعل ايضا لهذه الحركات قدوات، والهدف من تلك القدوات ليس مجرد اعطاء الامل والمزيد من الثقة، وانما ايضا لكي يرسم لنا المنهج السليم والصائب والقريب الى تحقيق هذه الامنية الشائقة ألا وهي الوصول الى الافضل في المجتمع.
والتاريخ مليء بتلك القصص الرائعة التي نجدها في الحركات التغييرية التي قادها الانبياء (ع) ونصرها ربنا سبحانه وتعالى حتى اصبحت ظاهرة في الارض، والله سبحانه أيد انبياءه ونصر رسله وغلب على اعدائهم بنصره، ألا تجد انه سبحانه نصر نبيه نوح بسفينته وابراهيم بنجاته من النار وهجرته وموسى بن عمران بغرق فرعون وآل فرعون في اليمّ، وكذلك نصر عيسى بن مريم على اعدائه فاصبح هو وانصاره وحواريوه الظاهرين في الارض، وكذلك نصر النبي محمد (ص) وجنده في كل المعارك التي خاضها النبي (ص) ونصر النبي في كل مكان؟
كل هذه النماذج التاريخية كانت في الحقيقة قدوة لمن يريد ان يتمثلها في حياته وان يسعى من اجل الوصول الى المجتمع الافضل، وقد وعد ربنا سبحانه وتعالى بالنصرة ايضاً. ألم يقل ربنا سبحانه وتعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"؟ ألم يكتب ربنا سبحانه وتعالى أن يغلب هو ورسله على الاعداء؟ بلى هذه الوعود هي ايضاًَ وقود حركة الامة نحو الامام ونحو الافضل، ربما بسبب تراكم المشاكل وتزايد العقبات والضغوط على الحالمين بالافضل والمتطلعين للاسمى والامثل ربما هذه الضغوط والعقبات تسبب لبعض منهم اليأس وأن يتزلزلوا في الطريق. إلا أن وعد الله سبحانه يأتي ليأخذ بأيديهم ويدفع بهم الى الامام ابداً.
*العقيدة المهدوية*
ومن ابرز ما يعدّ وقوداً لحركة الامة الاسلامية وبالذات حركة المؤمنين بنهج أئمة اهل البيت (ع)، ايمانهم بالنصر الحقيقي والنهائي للحق على الباطل على يد المنتظر الموعود الامام الحجة ابن الحسن المهدي (عجل الله فرجه)، هذه العقيدة المهدوية السليمة التي تتوافق مع العقل وتتوافق مع القرآن وتتوافق مع السنة الاكيدة والروايات المتوفرة عن النبي (ص) والمقبولة عند المسلمين جميعاً على اختلاف آرائهم ومذاهبهم في تفاصيل بعض الامور.
هذه العقيدة هي التي جعلت المسلمين عبر التاريخ دائماً يسعون لأجل التغيير، مؤمنين بالنصر و بوعد الله سبحانه وتعالى، وهي تنسجم كما سبقت الإشارة، مع آيات الكتاب الكريم، فالقرآن الكريم يحتوي في ما يحتوي على آيات كريمة فيها إما تصريح او إشارة أو تأويل لهذه الحقيقة، كما جاء في سورة الانبياء، فتجد ذلك الصراع المرير بين الحق والباطل يقوده من جهة الانبياء (ع) متوكلين على الله رافضين الخضوع الى الطغات ومتحدين كل الصعاب في الطريق، ومن جهة اخرى جنود الشيطان وأبالسة الزمان ألا ان النهاية دائماً تكون بنصرة الحق من قبل الله سبحانه وتعالى.
وفي الآية التي تلوناها في بدء حديثنا، الآية رقم 105، في ختام سورة الانبياء يقول ربنا سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"، أي أن ذلك مكتوب في التوراة وفي الزبور وفي هذا القرآن، و يعني مقرر من قبل الله سبحانه وتعالى، وثابت لا يمكن تغييره، فماذا كتب الله تعالى؟ " أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"، إن العباد الصالحون هم ورثة الارض، لماذا...؟ لان الله هو الذي يرث الارض والصالحون يرثون من عند الله سبحانه وتعالى ويخولون من عنده سبحانه وتعالى، وجاءت لفظة (العباد الصالحون) للدلالة على أن العباد الصالحين ليس كل من هو عبد لله، انما هو العبد الصالح، ثم ربنا سبحانه وتعالى يبين هذه الحقيقة وهي حقيقة واضحة ومهمة جداً، وهي حقيقة مستطيلة وعظيمةٌ وكبيرة لا يصل الى عمقها والى مغزاها الا العابدون من عباد الله سبحانه وتعالى، حينما يقول ربنا: "إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين"، فمن عبد الله واخلص في عبادته لله سبحانه وعرف حقائق الامور يصل الى هذه الحقيقة وهذا البلاغ، والبلاغ يعني الحقيقة التي تصل الى من يجب ان تصل اليه من الناس، لكن أيّ من الناس...؟ "إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين"، ثم يؤكد ربنا هذه الحقيقة مرة اخرى حينما يقول: "وما ارسلناك الا رحمة للعالمين"، الرحمة الشاملة التي تسع العالمين جميعاً التي تجلت في بعثة النبي (ص) وفي تلك الرسالة الخالدة التي حملها النبي (ص) الى الامم وهي رسالة القرآن الكريم وهي آخر رسالة إلهية ومهيمنة على سائر الرسالات، هذه الرحمة تتجلى حينما يرث العباد الصالحون الارض، ومعنى ذلك ان مسيرة الحياة البشرية إنما هي في تكامل وتسامي الى ان تصل الى ذلك اليوم الذي يسود الارض دين الله، وهو الدين الذي بشر الله سبحانه وتعالى عباده بأنه "سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون"، وهو الدين الذي تتجلى في رحمة الله الواسعة الشاملة للارض جميعاً، ولا بد ان يسود هذا الدين الارض جميعاً وهذا الامل الذي يتطلع اليه المؤمنون هوالذي يجعلهم يسعون، ويكون سعيهم هذا متأثراً بهذا الامل.
إن سعي المؤمنين نحو التغيير والاصلاح يتسم بجملة صفات قل نظيرها في سعي الاخرين من اجل التغيير والاصلاح:
الصفة الأولى: الوحدة..
لماذا الوحدة...؟
لأن القائد واحد، ولأن ذلك الإمام الموعود الذي بشر به النبي (ص) وقد غاب عن الانظار وهو لا يزال حياً ينتظر الظهور، ذلك الامام هو واحد، والجميع يسيرون باتجاه الاصلاح مستوحين ومستلهمين من قيادته ومن دعائه لهم على الرؤية الصحيحة للتحرك، فلا يتقاتلون فيما بينهم وإن فعلوا ذلك فانما لبرهة وجيزة لأنه هدفهم واحد وقائدهم واحد وامامهم الغائب هو واحد، ولأن كل واحد منهم يكتسب الشرعية من خلال وكالته ونيابته لذلك الامام، نيابة عامة، سواءً أكان فقيها مجتهداً أم مرجعاً كبيراً أو كان رجلاً مؤمناً صالحاً يقود حركة رسالية؛ كل أولئك إنما يعدّون أو يحسبون أنفسهم نوّاباً عامّين ليس إلا لذلك الإمام الغائب، إذن، فلماذا يتعارضون؟ ولماذا يختلفون فيما بينهم؟ واذا اختلفوا فان اختلافهم مجرد حالة طارئة أما الجوهر فهو الوحدة، لذا فان سعي هؤلاء يعد سعياً مشتركاً موحداً، واذا لم يكن موحداً في الظاهر فهو موحد في الباطن، لان الهدف واحد والقائد واحد ويتسم سعيهم ايضاً بانهم سوف لا يخصصون أرضاً دون أخرى لحركتهم إنما يسعون في الارض جميعاً، وفي كل منطقة من الارض يكون هناك ظلم ويكون هناك سعي لرفع الظلم، لان الله سبحانه وتعالى بشر عباده بان الرحمة الإلهية ستشمل الارض جميعاً، لذا فان الاقليمية والفصائلية والحزبية وسائر ما يميز الناس بعضهم عن بعض بسبب تواجدهم في اراضي مختلفة، لن تجد طريقاً الى قلب الساعين من اجل الاصلاح والذين يتبعون نهج الاسلام الحق يتبعون نهج الامام المهدي المنتظر (عج).
الصفة الثانية: الصمود والتحدي..
يتسم سعي المؤمنين أيضاً بانهم لا ينثنون ولا يتراجعون، لان الهدف كبير ولأن الله وعدهم بالنصر، حتى و إن انهزموا في معركة ما، أو اصابتهم مصائب الدنيا في فترة من الفترات، فانهم يتطلعون الى تجاوزها في فترات اخرى.
هاتان الصفتان هي من نعم الله على البشر، وانا اقول هنا وادعو كل الذين يسمعون حديثي هذا الى ان يزدادوا اهتماماً بهذه العقيدة، ألا وهي عقيدة المهدي المنتظر (عجل الله فرجه) لان هذه العقيدة هي بالحقيقة تكمل المنظومة المتكاملة من عقائد الدين الحق في مواجهة الطغيان ومواجهة التخلف، وحتى اولئك الذين لا يزالون غير مستوعبين او غير مستفيدين من هذه العقيدة بصورة كاملة، عليهم ان يعيدوا النظر في ما يعتقدون، ويعودوا الى عقيدة الاسلام الراسخة ويستفيدوا منها، أولاً: في سبيل اصلاح انفسهم، وثانياً: في سبيل اصلاح مجتمعهم.
وبكلمة ان الله سبحانه وتعالى الذي خلق الانسان في احسن تقويم وخلق البشرية في احسن صورة وهيئة، والله سبحانه وتعالى الذي خلق البشرية لكي يتفاضوا الى ان يصلوا الى مقعد صدقاً عند مليكٍ مقتدر، وخلق البشرية ليكونوا اهلاً للجنة ويرثوا الارض، ان الله سبحانه وتعالى قد رسم لهم من اجل الوصول الى هذه التطلعات وقد رسم الخريطة وهي موجودة في الكتاب وفي السنة وفي هذه العقائد، فكل من استفاد منها اكثر، كلما وصل الى تلك الاهداف والتطلعات التي يحلم بها اسرع.
اسأل الله سبحانه وتعالى على ان يجعلنا من الوارثين.
وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
|
|