عليّ.. آلاف الرجال في رجل واحد
|
بسم الله الرحمن الرحيم
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً* وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً" (الكهف 28 – 30)
يا أبا الحسن، يا أول مولود في الكعبة، وأول مقتول في المحراب، يا أول مؤمن، ويا أول صدّيق، يا من ميز الحق عن الباطل فاتبع الحق من أول يوم، أيها الفاروق، يا من كرم الله وجهك فلم تسجد للأصنام وكرم نفسك فلم تقبل بالدنايا، يا أبا السبطين، يا من هاجر الهجرتين، وبايع البيعتين وقاتل ببدر وحنين، ولم يشرك بالله طرفة عين، يا أمل المستضعفين، يا سلطان الأولياء وسيد الأوصياء، يا سطوة الحق في وجه الظالمين، يا سيف الله على رقاب المشركين، أيها المرتضى...
ماذا أقول فيك؟ وأنت يا سيدي الملك ونحن الرعايا، أنت المعلم ونحن المتعلمون، أنت الهادي ونحن المهتدون، ماذا أقول فيك واقصى مدحي أن اعلن عجزي عن مديحك؟ وبماذا أوصفك وقد حار فيك العارفون؟ وكيف أعبر عما في قلبي وحبك أكبر مما في السماوات والأرضين؟ مولاي ألهمني بعض معرفتك لكي اتحدث عن بعض مناقبك، فأنت البحر وانت السحاب، ومنك آخذ لكي أعطي فيك، فخذ بيدي وسدد لساني، ياهادي السبيل الرشاد.
ما عرف علياً أحد كما عرفه رسول الله، فالنبي نفس علي، وعلي نفس النبي، والانسان على نفسه بصيرة، فمن هنا جاءت كلمات النبي في حق علي كأنها السيل، تتحدث عن مقاماته وعن مواقعه وعن مناقبه، يقول النبي في بعضها: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) و (انا مدينة الحكمة وعلي بابها) (انا مدينة الجنة وعلي بابها) ( انا وعلي من شجرة واحدة وباقي الناس من شجر شتى) (اقضاكم علي، اعدلكم علي، اعلمكم علي) (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والي من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) (من كنت أنا نبيه فعلي أميره) (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (يا علي انت مني بمنزلة رأسي من بدني).
سألني عن علي: قلت: أي علي تقصد؟ قال أقصد ابن أبي طالب، قلت: أي واحد من شخصيات علي؟! يا هذا إن علياً ليس رجلاً واحداً إنما هو آلاف الرجال تلخصوا في رجل واحد، ألا ترى أنك لو ذكرت عليا في مجمع فإن كل واحد منهم سوف يتذكر رجلاً من رجال علي، أحدهم يتذكر المؤمن الصابر المتقي الذي يقضي الليالي الطوال وهو يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين من خشية الله، و الآخر يتذكر ذلك الشجاع المقدام صاحب ذو الفقار الذي ما نازل أحداً إلا وأنزله وما صارع أحداً إلا وصرعه، وما قاتل أحداً إلا وقتله، والثالث يتذكر ذلك العادل الذي لو اعطي الاقاليم السبع بما تحت أفلاكها على أن يظلم نملة في أن يسلب منها جلب الشعير لما فعل، والرابع يتذكر ذلك الكريم الذي يعطي كل ما يملك في سبيل الله حتى لا يبقى شيئاً يأكله فيبيع سيفه ودرعه ويقول: والله لو كان عندي ثمن عشاء ما بعته، حقاً إنه ليس رجلاً واحداً إنما آلاف الرجال.
مع علي ليست هنالك حاجة الى شخص آخر فهو باب رسول الله ، هو المشروع وهو الخطة وهو الجبهة وهو الراية وهو الهدف وهو الوسيلة وهو المبتغى وهو المنطلق وهو الكتاب الناطق وهو الصراط و هو الكوثر وهو الميزان وهو بعد كل هذا الجنة التي وعد الله المتقين من عباده. ليس من السهل على أحد أن يقرأ تاريخ الإمام علي بهدوء ومن دون اضطراب، فمع الإمام لا تستطيع أن تقف في زاوية المتفرجين، فأنت في وسط عاصفة من المجابهات، كأنك تسمع صرخاته الخالدات في وجه المشركين وترى بريق سيفه يلمع على رؤوس الطغاة وتلامس صولاته في صفوف الأعداء وهو يقطعها كما يقطع أحدنا قطعة من الزبدة بالسكين، كان سيفه عصا موسى يتحول في كفه الى حية من نار تلتف على رقاب الكافرين وتقطع أنفاسهم، فما من موقع اختلط فيه الحق بالباطل إلا وقد ميز الإمام بينهما ببصيرته وبقر فيه الباطل بسيفه، فكيف يمكنك أن تقف في وسط المعمعة هادئاً وأنت في وسط المعارك؟!
حب علي كل الإيمان، وبغضه كل الكفر، والبقية تفاصيل، قال لي أحدهم: ألا ترى أنك أحياناً تغالي في حق علي؟ قلت له: أيها المسكين، هل أنا عرفت علياً حتى أغالي فيه؟ أنا لا زلت في حرف الألف من أبجدية معرفته، فأين أنا وأين المغالاة؟
إن الوصول الى علي هو وصول الى عين الشمس، إنه كمهمة مستحيلة، ولكنه كمحاولة أمر واجب أليس هو القائل: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى بدنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد و عفة وسداد).
أحدهم قارن عليا بالعظماء لدى الأمم الأخرى، فقلت له: يا هذا أرجوك اترك الأمام فإنك بذلك تظلمه مثلما ظلمه الذين ذكروه مع معاوية، فقال: (أنزلني الدهر ثم ا نزلني ثم انزلني حتى قالوا: عليا ومعاوية)، وإذا كان لا بد من المقارنة فأليك مولاه قنبر، فإن اقدام قنبر اعلى من هامات جميع العظماء في تاريخ الشعوب، لقد صدق الإمام نفسه عندما قال: (نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد). بعلي تضرب الأمثال، ولا يضرب له مثل بأحد.
قامت حياة الإمام على أعمدة ثلاث: الإيمان و الحق و العدل، كل حياته كانت تدور ضمن هذه المحاور وعلى هذه الأعمدة، وهي الأعمدة التي قامت السماوات والأرضون عليها، لقد نظر الى الكون من خلال الإيمان بالله فلم يرى شيئاً إلا ورأى الله قبله ورآه بعده ورآه معه، والتزم الحق فلم يرض بدلاً عنه مع نفسه ومع الناس ومع الأحياء ومع الحياة جميعاً، والتزم بالعدل فلم يفرق بين بني آدم ولم يفضل أحداً على أحد في حياته قط، مع كل تكبيرة أتذكر صلواته، ومع كل صوم اتذكر تضحياته، ومع كل دعاء أتذكر صولاته، ومع كل تهليل اتذكر جولاته، فلولا علي لم يسلم دين الله من مكر الماكرين ولا سلم رسول الله من جور الجائرين فلا صلاة قامت ولا حج تقوّم ولا دين أقيم.
لقد غالى فيه جمع فقالوا: هو الرب، فضلّوا. وناصبه قوم العداء فكفروا، وأنكر بعض فضائله فتاهوا، وتقدم عليه جماعة، فمرقوا، وتأخر عنه آخرون فزهقوا، أما الذين آمنوا بالله كما آمن، ولزموا جادته وألتزموا منهجه واتبعوا سنته فقد فازوا، المتقدم له مارق، والمتأخر عنه زاهق، واللازم له لاحق، وتلك معادلة لا تغيرها الأزمان ولا الأماكن ولا الأجيال، قل بربك: هل أتى في الدهر بعد النبي مثل علي؟ هل هنالك انسان على شاكلة علي؟ هل في السماء ذكر مثل ذكر علي؟ هل في حق أحد نزلت "هل أتى على الإنسان ..." إلا في حق علي؟ لقد رفض علي التوسل بالظلم لكي يحرز الانتصار، وكان قاب قوسين منه، وقال قولته الشهيرة: (أأطلب النصرة بالجور؟) ورفض التوسل بما حرم الله لإجراء أحكام الله، وقال قولته الشهيرة: (لا يطاع الله من حيث يعصى)، ورفض أن يقوي سلطانه بما يخرب إيمانه وقال قولته المعروفة: (والله إني أعرف بدائكم ودوائكم، ولكن هيهات أن أصلحكم بخراب نفسي)، كان أمله في ربه بمقدار معرفته به، وكان خوفه من ربه بمقدار أمله فيه، ما زاد رجاؤه على خوفه بمقدار أنملة، ولا زاد خوفه على رجائه بمقدار أنملة، كان يخاف الله قائلاً: (إلهي من ذا يعرف قدرك فلا يخافك، ومن ذا يعرف ما أنت فلا يخافك) وكان يرجى رحمة ربه قائلاً: (باليقين أقطع، لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من اخلاد معانديك لجعلت النار كلها برداً وسلاما، وما كان لأحد فيها مقرا ولا مقاما).
لقد ملأ الإيمان قلبه فتحمل في سبيل ذلك كل عنت واضطهاد، لقد فرضت على الإمام مرة واحدة ضرائب كل الفضائل، ففرضت عليه ضريبة الإيمان في زمن الكفر، وضريبة الصدق في زمن النفاق، وضريبة الشجاعة في زمن الجبن، وضريبة العظمة في غربة دياره، فدفع كل تلك الضرائب من نفسه و أهله وبنيه راضياً مختاراً وفضل أن يعيش غريباً عن داره على أن يعيش غريبا عن إيمانه، وفضل أن يعيش مبغوض قومه على أن يعيش غير محبوب عند ربه، فعاش نقي الجيب، طاهر السريرة، لم تأخذه في الحق لومة لائم، حتى سفك في ذلك دمه، ووفد على بارئه طاهراً مطهراً سليم القلب.
في حب علي حب الله، في حب علي حب رسول الله، في حب علي حب كتاب الله، في حب علي حب الخير وحب الجمال والنور والفضائل، وفي بغضه بغض الله وبغض رسوله وبغض الكتاب وبغض الخير وبغض الجمال و بغض النور وبغض الفضائل، وربما هذا ما جيّش مشاعر الصاحب بن عبّاد الأديب والشاعر الموالي حيث تفجّر حبّاً و ولاءاً لأمير المؤمنين (عليه السلام) في قصيدة عصماء جاء في بعض أبياتها:
لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً و ودّ كل نبي مرسل و وليّ
وصام ما صام، صواماً بلا ضجر وقام ما قام، قواماً بلا مللِ
وحج ما حج من فرض ومن سنن وطاف ما طاف حاف غير منتعلِ
وطار في الجو لا يأوي الى أحدٍ وغاص في البحر مأموناً من البللِ
يكسو اليتامى من الديباج كلهمُ ويُطعم الجائعين البُر بالعسلِ
وعاش في الناس آلافاً مؤلفة عارٍ من الذنب معصوماً من الزللِ
ما كان في الحشر عند الله منتفعاً إلا بحب أمير المؤمنين عليّ
|
|