علم الكلام .. قارب نجاة للفكر أم سلوك نحو الدوامة القاتلة
|
*عدنان عبد الجبار
تأثرت البلاد الاسلامية بالافكار الفلسفية التي تسربت اليها من المدارس الفلسفية التي كانت تحيط بالعالم الاسلامي، وبالذات مدرسة الاسكندرية، التي اختلطت فيها الافكار الفلسفية المنسوبة الى (افلاطون) كبير فلاسفة الاشراق، وكذلك بالثقافات والمعارف التي كان المسيحيون وقتها يعتقدون بها. ومن خلال هذا الخلط نشأت المسيحية الجديدة المعروفة اليوم، والتي أدانها القرآن الكريم باعتبارها مضاهية للكفار الذين كانوا قبلها حيث قال ربنا سبحانه: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِاَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (التوبة /30).
ومن العلوم العقلية التي تُعد رديفاً للفلسفة، هي علم الكلام الذي أخذ حيزاً كبيراً في الدراسة والاهتمام بين علماء المسلمين، حتى بات هنالك علماء في الكلام، وما تزال آثار هذا الاهتمام مشهودة في الاوساط الثقافية والفكرية في البلاد الاسلامية.
لكن ما هو (علم الكلام)؟ وماهو هدفه؟ ولماذا سمّي بـ (علم الكلام)؟
إن علم الكلام هو الذي يدافع عن العقائد الاسلامية بالادلة العقلية. أمّا لماذا سمّي بعلم الكلام فقد قال البعض: لان المنشغلين بهذا العلم كانوا يعنونون فصول مباحثهم بلفظة كلام فيقولون - مثلاً - كلام في توحيد الله، كلام في القدر، و... هكذا. وبعض أحال التسمية لماهية البحوث، ولان اكثر ما بحث هذا العلم انما بحث موضوع كلام الله عز وجل هل هو قديم ام حادث، وهذه المسألة قد أشغلت المسلمين حوالي قرنين من الزمان.
وبعض آخر ألجأ هذه التسمية الى المعنى، وذلك لأن الفلاسفة سموا علمهم بالمنطق، ولأن ترجمة كلمة (المنطق) في اللغة العربية، هو الكلام. ولذا أطلق الفلاسفة المسلمون على علمهم اسم (الكلام). والقول الثالث هو الأظهر، ومنه يتبين انه حالة من التقليد الذي كان علماء الكلام يمارسونه بالنسبة الى الفلاسفة.
علم الكلام و سامري هذه الامة
في رواية عن أبي يحيى الواسطي قال: لما فتح امير المؤمنين (عليه السلام) البصرة اجتمع الناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه ألواح، فكان كلما لفظ أمير المؤمنين (عليه السلام) بكلمة كتبها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام - باعلى صوته - : ما تصنع ؟ قال : نكتب آثاركم لنحدث بها بعدكم. فقال له امير المؤمنين (عليه السلام): اما وان لكل قوم سامريـاً وهذا سامري هذه الامة، أما إنه لا يقول "لا مساس" ولكنه يقول لا قتال. وكان أمير المؤمنين قد احتج على الحسن البصري عدم مشاركته في القتال، فقال: سمعت هاتفاً يقول: إن القاتل والمقتول في النار! فقال له (عليه السلام): وما دريت من كان؟ قال لا، قال ذات أخوك ابليس! وهذه الرواية نقلها الطبرسي في الاحتجاج (ج 1 / ص 171).
والذي يبدو واضحاً وجلياً من هذا النص، هو وجه التشابه بين سامري بني اسرائيل والحسن البصري. فسامري بني اسرائيل أخرج لهم عجلا جسدا له خوار وقال هذا إلهكم وإله موسى فأضل به شطراً كبيراً من جماهير بني اسرائيل، ومثله فعل الحسن البصري الذي عمل على سلب المسؤولية عن الدين الاسلامي ودفع البحوث العقائدية ونحا بها منحى يجرد فيه الايمان عن العمل. والبصري وهذا الذي آخاه أمير المؤمنين بابليس أسس مدرسة في القدر التي ذمها الرسول (صلى الله عليه وآله) وحذرالامة منها فيما روى عنه (صلى الله عليه وآله) جماعة من علماء الاسلام انه قال: لُعنت القدرية على لسان سبعين نبياً قيل : ومن القدرية يا رسول الله ؟ فقال : قوم يزعمون أن الله سبحانه قدّر عليهم المعاصي وعذبهم عليها.
وعلي يد الحسن البصري تأسست مدرسة الاشاعرة وفي ظل مدرسته، نمت مدرسة الاعتزال على يد تلميذه واصل بن عطاء الذي يصف استاذه البصري بأنه يتغير بين عشية وضحاها، وانه لا يستقر على رأي، وأنه (كل يوم هو في شأن). ففي يوم يقول بالقدر، أي ان الله سبحانه هو الذي قدّر اعمال العباد وليس للعباد شأن في اعمالهم، وفي يوم آخر يقول إن العمل هو من شأن الانسان وحده. وفي يوم ثالث يقول إن علم الله سبحانه حادث، وفي رابع يقول علم الله قديم، ومرة يقول خلق الله للخلق حادث، وأخرى يقول قديم...!
وربما يتصور ان هذا التلون والتغير في آراء الحسن البصري كان سبباً لانعزال تلميذه واصل بن عطاء عن مدرسة استاذه، لكن الحقائق التاريخية التي سادت تلك الفترة تكشف بوضوح عن سبب رئيس آخر هو أن الازارقة - وهم فرع من فروع الخوارج - كانت لهم السلطة آنذاك على البصرة، وكانوا يزعمون بان مرتكب الكبيرة كافر وأنه خالد في النار، بينما كان الحسن البصري يقول انه ليس بكافر. فكان لابد لواصل، وهو كأستاذه يعيش حالة الانهزامية، ولكي يتهرب عن تحمل عناء الوقوف امام الحكام المتطرفين واصحاب النفوذ، ولكي ينسلَّ عن قضايا الثورة التي كان يقودها أهل بيت الرسول صلوات الله عليهم اجمعين دفاعا عن الرسالة الالهية. كان لابد له أن يخرج برأي توفيقي بين آراء استاذه وآراء السلطة الحاكمة، فأسس مذهبا يقول إن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولـيس بمسلم وانما هو منزلة بين منزلتين فهو إذن فاسق.
وقد اطلق اسم المعتزلة على المدرسة التي اسسها واصل بن عطاء بعد ان طرده استاذه الحسن البصري من حلقة درسه لمخالفته لاقواله، فاعتزل في زاوية من المسجد واتخذ لنفسه حلقة جديدة والتحق به عمرو بن عبيد، وبذلك سمي بالمعتـزل، وسميت مدرسته بالمعتـزلـة، وقد تشعبت فيما بعد الى اثنتيـن وعشريـن فرقـة.
لماذا علم الكلام ؟
حينما تعرضت ثقافة المسلمين الى الارتجاج وسادتها الفوضى نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية ؛ لاسيما بعد مقتل الخليفة الثالث، ظهرت على الساحة الاسلامية تساؤلات كان لها أثر لايستهان به في الحقل الثقافي، فاضطربت معها الافكار. وكانت سبباً دافعاً لعلماء الدين ان يُنشؤوا علماً أو فناً يستطيع ان يحافظ على توازن الجو الثقافي وعلى تعادل الفكر، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية فان باب العلم الذي فتحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) امام المسلمين على مصراعيه بقوله: (انا مدينة العلم وعلي بابها)، وقوله: (اقضاكم علي). وكذلك باب الولوج الى المعارف الالهية الذي فتحه الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله: (اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله، وعترتي اهل بيتي)، هذا الباب صدته رياح الجاهلية المتجددة في المجتمع الاسلامي الحديث، والأهواء التسلطية في بعض الفئات التي عملت على إبعاد أهل بيت العصمة عن مراكز التوجيه والتثقيف ومن ثم ابعاد الناس عن تفسير القرآن الكريم. فكان ان اجتاحت المجتمع الاسلامي افكار غريبة ودخيلة، وكان ان احتاج الناس الى ثقافة بديلة فنشأت نظريات واسست مدارس فكرية مختلفة وهكذا وجد أمثال الحسن البصري وواصل بن عطاء وكانت المذاهب والمدارس الاخرى في علم الكلام وفي الفقه.
ثم ان انقلاب مجمتع الجزيرة العربية على واقعه المتخلف بفضل بزوغ نور الاسلام وظهور الرسالة المحمدية، كان انبثاقا للحضارة الاسلامية في القرن الاول الهجري، وحيث نشر الاسلام نوره على البقاع المجاروة للجزيرة وفتح المسلمون العراق وسوريا ومصر، اصطدموا حينها بالحضارة البيزنطية والفارسية القديمة، وكنتيجة طبيعية لهذا الاصطدام والاحتكاك بين الحضارة الاسلامية وتلك الحضارات تفاعلت الافكار فخرج الى حيز الواقع نمطان من التفكر: يمثل احدهما فئة المتبعين للافكار الدخيلة وهم الفلاسفة كابن المقفّع وابن ابي العوجاء وعبد الله الديصاني وغيرهم من المتزندقة، وفئة أخرى أرادت ان توفق بين الامرين ؛ بين الافكار الدخيلة والافكار الاصيلة، وهؤلاء هم الذين أسسوا ما يعرف اليوم بعلم الكلام.
وقد لعن رسول الله عدة فئات ومن جملتهم (القدرية)، وتقول القدرية: اننا نعمل الاعمال والله هو الذي يجازي ويتحمل مسؤولية اعمالنا، ويقولون: إن علم الله قديم وعمل الانسان في علم الله ؛ فالله هو الذي قام بهذا العمل، وكثير من المسلمين ضلّوا السبيل ففسدت افكارهم وعقائدهم بسبب هذه الافكار التبريرية التي تبرر ما يفعله الانسان وترفع عنه الجزاء عما يرتكبه من كبائر وصغائر.
والاعتقاد السائد عند بعض المؤرخين هو ان الحسن البصري هو اول من تكلم في القدر وان إليه تنتهي كثير من المذاهب العقائدية القائلة بتجريد الايمان عن العمل، وربما كان هو المشجع للتصوف والرهبنة بزعمه ان افعال العباد مخلوقة، ففي رواية وردت في (بحار البحار) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في القدر انه قال : (ألا إن القدر سرّ من سرّ الله وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله عن العباد علمه، ورفعه فوق شهاداتهم لانهم لاينالونه بحقيقة الربانية ولابقدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية لانه بحر زاخر مواج خالص لله عز وجل، عمقه ما بين السماء والارض، عرضه مابين المشرق والمغرب اسود كالليل الدامس، كثير الحيّات والحيتان ؛ تعلو مرة وتسفل أخرى، في قعره شمس تضيء لا ينبغي ان يطّلع عليها إلاّ الواحد الفرد، فمن تطلَّع عليها فقد ضادّ الله في حكمه ونازعه في سلطانه وكشف عن سرّه وستره وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
وقد وردت هذه الرواية جواباً قاطعاً لمن سأله عليه السلام عن القدر، وجاءت تحذيراً بان القدر امر خطير وتوجيهاً للانسان بأن يؤمن بوجدانه وبفطرته وانه مكلف حرّ ومريد في أعماله وان عليه الجزاء، واما ان يتعمق الانسان في ذات الله فذاك هو التفكر في ذات الله وذاك هو الزندقة، بينما يأتي سامري هذه الامة ليحدث الناس عن القدر فيبث الشبهات في افكار الناس ويضللهم.
والذي يبدو ان الحسن بن ابي الحسن البصري كان يسعى الى تبرير افكاره من خلال مراسلاته وكتاباته مع الائمة المعصومين (عليهم السلام)، فلم يكن يجد إلاّ ردّاً قاطعاً، فقد روي عن الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) انه قال : كتب الحسن بن ابي الحسن البصري الى الحسين بن علي بن ابي طالب صلوات الله عليهما يسأله عن القدر، فكتب اليه: (فاتبع ما شرحت لك في القدر مما افضي إلينا اهل البيت فانه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله عز وجل فقد افترى على الله افتراءً عظيماً)، والذي يبدو ان الرجل كان يسعى لمثل ذلك، اذ انه اما كان يحمّل الله اعماله ومسؤولية تصرفاته واما انه كان يقول بان ليس لله شأن في مسألة القدر، لكن الامام سيد الشهداء (عليه السلام) يقول في جوابه: (ان الله تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولا يهمل العباد في الهلكة لكنه المالك لما ملّكهم... - الى ان قال في نهاية الحديث- فانا على ذلك اذهب وبه اقول، والله انا واصحابي ايضاً عليه ولله الحمد).
ممّا سبق تتضح طبيعة الظروف التي سادت المجتمع الاسلامي في تلك الفترة وطبيعة العوامل التي ادت الى نشوء علم الكلام... أئمة معصومون يضعون الحقائق أمام الناس من خلال احاديثهم وكتاباتهم ومراسلاتهم، ومسلمون يعيشون في متاهات هذا العلم ويتحدثون بما اسقط الله عنهم مسؤوليته، هكذا وفي مثل هذه الظروف انتشر علم الكلام، وهو وإن لم يكن ضاراً كله فقد كان مفيداً في بعض جوانبه، إلا إنه في مثل هذه الارضية وهذه الاجواء نشأت فرق منحرفة في الامة الاسلامية كالاسماعيلية والمانوية، والراوندية، والباطنية، فرق الّهت الائمة (عليهم السلام)، فما من إمام من ائمتنا ابتداءً من الامام علي (عليه السلام) والى الامام الرضا (عليه السلام) إلاّ وقد أُلّه من قبل مجموعة من اصحاب الفلسفة الذين كانوا يحسبون أنفسهم - كذباً وزوراً- من الشيعة، وكان الأئمة الاطهار يحاربونهم أشد المحاربة.
من هنا فنحن أمام دعوة لقراءة متأنية للأفكار العقائدية التي تملأ المكتبات اليوم، فمن هذه الكتب والمؤلفات التي تتحدث عن الفلسفة وعلم الكلام وسائر المؤثرات الفلسفية اليونانية، نسمع النقاشات الحادة الصاخبة في الندوات، ونشاهد مختلف البرامج الثقافية عبر وسائل الاعلام التي تحاول أطراف عديدة زرع هذه الأفكار في أدمغة الجيل الجديد، بعد أن ثبت نجاحها في تضليل الأجيال الماضية وابتعادها عن خط أهل البيت (عليهم السلام).
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------
|
|