بصائر... قبسات من رؤى ومحاضرات سَمَاحَة المَرجِعِ الدّيني آيةِ اللهِ العُظمى السّيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسِي
شهر رجب الأصبّ.. فرصة لإحياء سنّة الرّحمة بين المسلمين
|
*إعداد / بشير عباس
هل من علاقة بين اكبر كارثة بيئية وقعت حتى الآن في شمال المكسيك وبين حصار غزة؟
وهل هنالك من صلة مقاربة بين انفجار بركان ايسلندا وبين أحداث العنف في الصومال وجنوب السودان؟
وهل هنالك علاقة بين انتشار مرض انفلونزا الخنازير في بعض دول العالم وبين ما يعيشه العالم الثالث من فقر وحرمان وانتشار مستمر للأوبئة الخطيرة؟
إن أكثر من مليون ونصف مليون انسان يعيشون الحصار في مدينة غزة جنوب فلسطين المحتلة بقرار من سلطات الاحتلال الاسرائيلي وذلك من الجهات الثلاث؛ جواً وبراً وبحراً، وفيهم الاطفال و النساء وكبار السن و المرضى ومن لا ذنب له غير انه ولد في هذه الارض وعاش في هذه المنطقة. من جهة أخرى نلاحظ إن الدخان الهائل والغبار الكثيف الذي انبعث من بركان ايسلندا شمال أوربا تسبب بتجميد رحلات الطائرات واختلال حياة ملايين الناس هناك، أما مرض انفلونزا الخنازير المعدي والذي تحدثت التقارير كثيراً عن خطورته، سبب الهلع في كثير من بلدان العالم وحتى توقفت الحياة في بعض تلك البلاد مثل المكسيك وهي منبع هذا المرض الخبيث، لكن في نفس الوقت نلاحظ إن آخر إحصائية عن الاوضاع الصحية في العالم الثالث تقول: إن مئة الف انسان يموتون سنوياً في افريقيا بسبب الادوية الفاسدة، وحسب التقارير فان تجارة الأدوية الفاسدة في العالم بلغت مئتين مليار دولار!
الكوارث الطبيعية "بما كسبت أيدي الناس"
اذا كان العالم خليقة الرب، واذا كان الرب قائماً بالقسط، واذا كان الله تعالى اجرى سُنة أساس في خلقه وهي سُنة الحق حيث يقول تعالى في اكثر من آية؛ انه لم يخلق السموات والارض الا بالحق واجل مسمّى، فاذا كان الامر كذلك، فلا بد ان تكون ثمة صلة بين اكبر كارثة بيئية في الولايات المتحدة الاميركية وبين حصار غزة وبين الموتى في افريقيا وهم بشر وبين مشكلة ايسلندا وبين مشكلات اقتصادية في اوربا وبين بعض الدول الاوربية وبعض الناس هنا وهناك، لكن كل هذه الامور التي جرت ليست الاّ اشارة إلهية، إن الله قادر على ان يفجر كل هذه الكوارث والمشاكل دفعة واحدة، فمن السهل اليسير أن يقع زلزال عنيف بدرجة – مثلاً- 10 درجات على مقياس (ريختر) وهو ليس مما يشهده العالم من زلازل هنا وهناك، فمعنى هذا ان لا يبقى فوق هذا الكوكب الذي نحن عليه شيء من صنع البشر، فيتهدم كل شيء، لكن الله تعالى لا يفعل ذلك، إنما يطلق إشارات هنا وهناك بسبب الفساد الذي يعمّ الأرض، فهناك انفجار في بركان، او هناك انفجار في عمق خليج المكسيك فتهوي منصة نفط عملاقة في قلب البحر وتسبب تلك الكارثة البيئية العظيمة، كل ذلك إنما مجرد اشارة وتنبيه للناس لعلهم يهتدون ويعقلون ويرجعون.
يقول سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"، و الفساد بمعنى أن تجري الأمور على غير طبيعتها، وإلا حينما تكون الامور وفق النسق الطبيعي والفطري الذي صممه البارئ عزوجلّ ، لن يكون هنالك فساد، لكن اذا تقع الجريمة والمعصية والتمرد، فمعنى هذا أن ثمة يداً بشرية وراء الكوارث والمشاكل التي تفرزها تلكم المعاصي والجرائم والمخالفات للسنن الإلهية، والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة عندما يقول: "بما كسبت أيدي الناس"، فالناس هم الذين ارادوا هذا الفساد وهم الذين عملوا بطريقة معينة ولم ينتبهوا الى طبيعة الارض والى طبيعة الناس، فيحصل ما نرى ونشهد.
محطات في خارطة الحياة
لكن ما هو الهدف من تلكم الإشارات والتنبيه العنيف للانسان؟
تجيب الآية الكريمة: " ليذيقهم بعض الذي عملوا"، وهنا تكمن حكمة عظيمة في التبعيض، فلا يؤاخذ الله الناس بكل ما عملوا، إنما ببعضها، وإلا لخسفت الأرض بهم، وذلك "لعلهم يرجعون"، اي لعلهم يتوبون الى بارئهم، وهذه الاية الكريمة اذا انتبهنا اليها نجد أنها ترسم لنا خريطة لحياتنا ومستقبلنا، وهي تنبهنا الى طريقة عملنا، سواء كنّا في العراق أم في أي مكان آخر، ولهذه الخارطة محطات يبينها لنا البارئ عزّوجل:
أولاً: لا يفكر الواحد منّا بان عمله يذهب عبثاً، إن أيّ عمل يقوم به الانسان وفي اي وقت من الليل او النهار، في السر او العلن، فانه يجزى به، "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره"، "وان ليس للانسان الاّ ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الاوفى".
ثانياً: اذا كان العمل في الاتجاه الصحيح كانت نتائجه صحيحة وسليمة، أما اذا كان في الاتجاه الخاطئ كانت نتائجه كارثية، فلا يستسهل الانسان أعماله الظاهرية، لأن ربما تكون عواقبها كبيرة وخطيرة، فالذي يقود سيارته في الشارع الرئيسي الى جانب سائر المركبات، فان مجرد غفلة بسيطة، تؤدي الى حصول حادث سير، قد يكون بالارتطام بسيارة أخرى، أو دهس أحد العابرين، أو حتى انقلاب السيارة وتحطمها أو احتمالات عديدة وكثيرة أخرى، وفي العالم يومياً يصاب الآلاف بجروح بسبب الغفلة في السياقة وبعضهم يفارق الحياة. هذا ما يتعلق بالفرد الواحد، فما بالنا اذا تعلق الأمر بالمجتمع، فهنالك من يظلم يتيم ويأكل حقه ، ربما يقول: وما قيمة ذلك اليتيم وأمواله، ؟! لكن هذا التجاوز سيتحول – حسب السنن الإلهية الى مرض فتّاك أو مرض نفسي خطير مثل قسوة القلب، بل قد يتحول هذا المال الى حطب في نار جهنم.
كان الإمام زين العابدين ذات يوم وهو صبي صغير واقفاً بالقرب من الأطفال ممن في سنّه، عند باب بيت الإمام الحسين (عليه السلام) في مدينة الهاشميين وهي محلة كانت بين البقيع وبين قبر النبي الأكرم (ص)، أحد المارة رأى الإمام واقفاً لا يلعب مع سائر الأطفال، فتخيّل أنه طفل يتيم مهمّش لايمكنه اللعب مع الآخرين، فاقترب منه وأعطاه اداة لعب فقال له الامام (عليه السلام): ماذا اعمل بها؟! قال له العب بها! ما أن سمع الإمام هذه الكلمة حتى انفجر بالبكاء وقال له: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون /115)، فاستغرب عابر السبيل من هذا الموقف، و عندما خرجت النسوة من دار الإمام، سأل عمن يكون الطفل الصغير، فقالوا إنه علي بن الحسين (عليهما السلام)، فوقف ذلك الرجل و اعتذر من الإمام وقال: ما اردت به سوءاً، لكنه سأل الامام وقال: يا ابن رسول الله انت رجل صغير وتخاف من نار جهنم بهذا الشكل؟! قال له: عندما كانت أمي – وهذا الكلام موجّه الى جميع الأطفال والآباء والأمهات- تريد ان تطبخ تطلب منّا أن نجمع لها بعض الأعواد الصغيرة، فهي تشتعل وتساعد الحطب على الاشتعال، فقال له : يا ابن رسول الله، وما علاقة الأعواد بقضيتنا؟ قال له (عليه السلام): أخشى أن اكون مثل تلك الأعواد والقى في نار جهنم!
لانستصغر الذنوب
إن كل ما نشهده اليوم من فساد الحكام والاداريين ومن مشاكل اقتصادية وأزمات مالية، وحتى من احتباس قطر السماء، كلها نتيجة اعمال الناس، وهنا يكمن الامتحان، فالانسان لايعرف متى تقع الكارثة والأزمة، لذا فهو يعيش بين الجنة والنار وبين الرجاء والخوف حتى يصلح امره. وجاء في الحديث الشريف: (اذا جار القضاء مُنعت السماء قطرها)، فالقاضي وهو جالس خلف الطاولة، وامامه قضية، فيحكم بغير ما انزل الله - اعوذ بالله – فان النتيجة هي الأزمات والكوارث ، وأمامنا حديث آخر (اذا كثر الزنا كثر موت الفُجئة)، ربما الانسان اليوم لا يمكنه الربط بين (الزنا) أعوذ بالله كممارسة لا أخلاقية، وبين موت الفُجئة، مثل السكتة القلبية وهي ظاهرة صحية، وكذلك العلاقة بين (الربا)، وبين الأزمات الاقتصادية، و لكن قطعاً هنالك علاقة وفق السنن الإلهية لان الله تعالى هو الذي يعين ويُدبّر، واذا كان هنالك شعب في مكان ما جائع، فيما هنالك شعب آخر متخم بالمأكولات والاموال، فلابد ان تحدث له بعض المشاكل، "لعلهم يرجعون".
نحن حالياً نعيش أيام شهر رجب الأصب، وهي أيام الرحمة الإلهية، وقد سُمّي بالأصب، لان الرحمة تُصبّ في هذا الشهر على العباد، إذن هي الفرصة الذهبية لنا لنراجع أنفسنا ونعيد النظر في أعمالنا ومنهجنا في الحياة، لاسيما وإن هذا الشهر هو شهر اهل البيت، ففي بداية الشهر ذكرى ولادة الامام الهادي، ومن ثم ذكرى استشهاده (عليه السلام)، وفي الثالث منه ذكرى ميلاد الامام الجواد (عليه السلام)، وفي الثالث عشر منه الذكرى العزيزة علينا وهي ميلاد الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفي يوم السابع والعشرين ذكرى مبعث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وفي هذا الشهر الفضيل ليالي البيض، والأعمال المندوبة والمؤكدة عن المعصومين، التي من شأنها أن تعيدنا الى علاقتنا الطبيعية مع السماء، ثم لتعود بركات السماء والأرض علينا وتنتشر في بلادنا.
إن العراق لا يملك (الرافدين)، وحسب، إنما يعيش على ضفاف الروافد الالهية، فالامام علي والامام الحسين والامام موسى بن جعفر والامام الجواد والامام علي الهادي والامام العسكري والامام الحجة بن الحسن العسكري (صلوات الله عليهم أجمعون)، كلهم روافد عظيمة، وعلى ضفاف هذه الروافد العظيمة يجدر بنا الإنابة والتوبة الى الله تعالى، فاذا اردنا حقاً المستقبل الآمن والمشرق لأبنائنا لابد ان نعود الى الله تعالى. ولا يقول أحدنا؛ انا الحمد لله لا ذنب عليّ! ، فكل واحد منّا بقدره ومستواه عليه تقصير، سواء كان من العلماء أم الخطباء أوالسياسيين أو التجار أو الكسبة والعمال، فكل انسان معرض للخطأ، ولابد أن يعد نفسه مقصراً ومخطئاً، ثم يبدأ بالتغيير والاصلاح، لكن كيف؟
المسؤولية في عودة الأخلاق الفاضلة
إن طريق العودة والإصلاح يبدأ من إعادة الحسابات فيما يتعلق بحقوق الناس، ونطرح السؤال على أنفسنا؛ هل ثمة من قصور في حق الوالدين او في حق الزوجة، البعض – للأسف – يعد مسألة الزوجة خارجة عن التوجيهات والالتزامات ا لاخلاقية فيظلمون زوجاتهم، بينما الظلم يحبس الدعاء عن السماء.
إحد مراجعنا الكبار في العراق وهو المرحوم آية الله العظمى السيد عبد الاعلى السبزواري (قُدس سره) ذكر في كتابه (مذهب الاحكام) سبعين حقاً من حقوق الاخوان، مسنودة بالروايات عن المعصومين ، ثم يقول السيد رأيه، بان هذه الحقوق واجبة، و اذا لم يتمكن الانسان في الدنيا أداء هذه الحقوق فهو مطالب بها يوم القيامة.
وبالنسبة للمجتمع العراقي، فقد كان مجتمعاً قائماً على قاعدة الاخلاق الحسنة ، و اخلاق اهل البيت (ع) واخلاق العلماء الربانيين، لكن شيئاً فشيئاً، بدأ المجتمع يتغافل وينسى هذه القيم الاخلاقية ويبتعد واذا بالأمور تسوء وتصل الى هذه المرحلة الكارثية، إذن، تعالوا نرجع الى تلك الاخلاق الفاضلة التي كنا نحملها، حيث كان الصغير يحترم الكبير، والكبير يعطف على الصغير، والناس متكافلون مع بعض، ويسود الناس الاحترام المتبادل والسلام والامن الاجتماعي، كل هذه المواصفات يجب أن نستعيدها ثانية، وهذه مسؤولية المفكرين والاعلاميين والخطباء والعلماء، فهي مسؤوليتنا بان ننزل الى الميدان ونتكلم.
لم أرَ آية في القران الكريم نسخت الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا يجب على الخطيب الذي يرتقي المنبر أن يتكلم لكن ليس سلباً إنما إيجاباً، فلا يجوز الكلام السلبي، إذ علينا أن نكون ناصحين: "وقل لعبادي ان يقولوا التي هي احسن"، فلابد ان نختار الكلمات، وفي نفس الوقت لايجوز السكوت على الفساد والباطل، ومن جملة الامور فيما يتصل بالاصلاح كفعل اجتماعي والتوبة كعمل ذاتي، لابد بدايةً من رد حقوق الناس. إن الذي يجلس خلف طاولة ما، ويتسنم منصباً ما، وبسبب ظروف معينة يغويه الشيطان و يقع في الفساد، يتصور إنه يضع يده على أموال الدولة، في حين هي أموال الناس المستضعفين والفقراء والأيتام، ولابد من اعادتها الى أهلها، والغريب أن البعض يخشون النزاهة لكن لا يخشون رب النزاهة، فيجب أن تُعاد الاموال الى العلماء، والعلماء بدورهم يجب ان يقوموا بدورهم في صرف هذه الاموال في خدمات المجتمع.
ذكر أحد علماء الدين، بانه قام بنفسه بمدّ خط الكهرباء والماء الى بيته، وهذا هو الصحيح، إذ لا يجب انتظار الحكومة أن تأتي وتقوم بكل شيء، فيجب على العلماء ان ينزلوا الى الميدان ويجمعوا التبرعات ويقيموا المشاريع الخدمية من حفر الآبار لسقاية الناس وبناء المستشفيات والمستوصفات ، أو أي خدمة أخرى يحتاجها الناس، وفي الحقيقة هي مسؤولية وعمل الانبياء، وايضاً هي مسؤولية العلماء الذين عاشوا في الفترات الماضية، والأمثلة على ذلك كثيرة، ففي مدينة النجف الاشرف وفي كربلاء المقدسة وفي قم وبلاد أخرى ، ترى مدارس ومكتبات ومستشفيات ومؤسسات خيرية بناها هذا العالم أو ذاك، ففي مدينة طهران هنالك مستشفى بناها أحد علماء الدين في وقت سابق من القرن الماضي ، وهو معروف بالفيروز آبادي ، وكانت من أكبر المستشفيات في حينها، وفي كتاب (شرائع الاسلام) للمحقق الحلّي وفي سائر الكتب الفقهية، يُعد بناء الطرق والقناطر وما اشبه من موارد صرف الزكواة.
من هنا علينا أن نتوجه الى الله تعالى في هذه الليالي المباركة والعظيمة ونسأله ليس فقط لحاجاتنا الشخصية بل لحاجات المسلمين بأجمعهم، فكل انسان مسلم سواء كان في غزة او في ايران او في افغانستان او في العراق واي بقعة من العالم ينتظر الرحمة الإلهية، بأن تنزل هذه الرحمة والبركة كما نطلب من الله تعالى ان يرحمنا جميعا بعد أن نتوب اليه من ذنوبنا ومن تقصيرنا بحق أنفسنا والآخرين.
|
|