قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

ملامح الحرية في انتخاب المسؤول وفق النظام الاسلامي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *كريم نصيّف عبد
حرية انتخاب المسؤول في النظام الحاكم، تُعد من أبرز سمات النظام الاسلامي الذي أرسى دعائمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي الفترة التي شهدت تصدرهما للولاية، شهد الناس أجمعين ولمسوا الحق الانساني - بما تعنيه الكلمة من معنى- في تقرير مصيره واختيار طريقه في الحياة، ليكون بذلك مسؤولاً عن تصرفاته وسلوكه أمام المجتمع في الدنيا وأمام الله تعالى في الآخرة. فـ "لا إكراه في الدين..."، بعد أن تبين الرشد من الغيّ، إذ لا حجة لأحد بعد ذلك ولا عذر. وهذه بالحقيقة إحدى مصاديق الحرية التي طالما يحلم بها إنسان اليوم ويشكو من أزمتها ومن اللغط الذي يحوم حولها.
الاسلام يصون الحرية
وقبل أن نعرف الطريقة الفُضلى والآلية التي من خلالها يتمكن الانسان من استخدام حريته لانتخاب قائده، لابد من تسليط الضوء على مشكلتين تسيء الى صورة الحرية في الأنظمة السياسية في العالم؛ المشكلة الأولى نفسية وتعود الى السلوك الانساني، والثانية ثقافية.
المشكلة الأولى:
لدى الانسان بصفة عامة نزعة نحو التملّك والتسلّط. وهذه النزعة هي أقوى وأعنف وأبقى من أية نزعة أخرى، وهي من أقوى الأخطار التي تهدد حرية الآخرين، حيث تتحدد حرية الفرد بحدود حريات الآخرين. فإذا طغت الحريات الفردية وتعدت حدودها فإنها تتحول إلى شريعة الغاب. في حين تتمثل الحرية في حفظ حرمات الآخرين. فحريتي تكون حقيقية وواقعية حين يحترم الآخرون حقوقي، ويحترمون شخصيتي وكرامتي. لذلك لا يستخدم الإسلام كلمة الحرية الا قليلا وانما يستخدم الجانب الآخر للحرية وهو عبارة (الحُرمة) ومشتقاتها، فيقول: (حريم الإنسان)، و (حريم البيت)، و(حرم الله)، و(حرمة الإعتداء). فالحرية تتبدل في مفهوم الإسلام إلى الحرمة، لأن الحرمة هي التي تحافظ على الحرية.
من جهة أخرى، حين يستخدم الإنسان حريته، فإن وضعه سيكون إنعكاسا لنفسيته وثقافته ومستواه الحضاري. فقد يكون الإنسان متخلفا من الناحية الحضارية والثقافية، ومنحرفا من الناحية السلوكية، لذلك فإن حريته اللامحدودة ستكون كارثة حقيقية له وللآخرين. وحينما نعطي له الحق بأن يكون حرا في اختياره، فإن الحرية ستكرس تخلفه وانحرافه ومن ثم ستكرس الفساد في الأرض.
ان حرية المشركين مثلا في إختيار الشرك كخط عقائدي في الحياة، تعني تكريس الشرك في واقعهم وإعطاء الشرعية لهذا الإنحراف، وهذا يتناقض مع فطرة الإنسان، ذلك لأن الشرك هو عبودية الإنسان لغير الله، ومن ثم يعني إستغلال حرية الإنسان في إختيار العبودية لغير الله.
وحينما أرسل الأنبياء لهداية البشرية، قاومهم الكثير من الناس بحريتهم، فهناك الكثير من البشر كانوا مضللين، وكانوا يستخدمون حريتهم في سبيل تكريس إنحرافهم وجهلهم وغفلتهم، ومن ثم تكريس الفساد في أنفسهم ومجتمعهم. ومثالٌ من التاريخ المعاصر، الشعب الألماني الذي كانت له حرية مطلقة قبيل الحرب العالمية الثانية في اختيار قائد أعلى له، فاختار الحزب النازي وزعيمه هتلر فقاد هذا الشعب والعالم إلى الدمار.
المشكلة الثانية:
تواجه الانسان طوال حياته هواجس الانحراف والتخلّف فيكونون السبب في إساءة التقدير والانتخاب، لكن الإسلام يأتي ويعالج هذه المشكلة بطريقتين:
الطريقة الأولى: إن الإسلام لا يدع الإختيار مفتوحاً، وانما يعطي الفرد حرية القرار في حدود معينة. جاء في الحديث المروي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه). فالرجل الذي يحمل هذه المواصفات: فقيها، مطيعا لله، ومخالفا لأهوائه الشخصية، هو الذي يجوز لك أن تتبعه في أمور دينك ودنياك وتعمل تحت قيادته.
وهناك فرق دقيق بين معنيي الإختيار والإنتخاب. فالإختيار هو أن تقرر ما تشاء، حسب ما تشاء، وكيفما تشاء، فإذا قال لك أحد: إذهب إلى السوق واختر لك ثوبا، فستكون لك الحرية الكاملة في شراء الثوب الذي تهواه نفسك دون التقيد بأية ضوابط. أما إذا قال لك الطبيب: عليك أن تتناول الأطعمة التي تحافظ على صحتك، فإن حريتك في اختيار الأطعمة حيئذ ستكون مقيدة بإعتبارات خاصة تحددها وصفة الطبيب، فبالرغم من أنك أنت الذي تنتخب الطعام المناسب لصحتك، إلا أنه يكون حسب شروط وصفة الطبيب.
الطريقة الثانية: يوجه الإسلام الطليعة الرسالية أولي العلم والدين، وذوي البصائر النيرة، أن يقوموا بدور التوعية ونشر الثقافة والفكر السديد في صفوف الجماهير، وهذا بحد ذاته يُعد حصانة لهم من محاولات التضليل والتغرير من غير الكفوئين والمتطاولين. فالله سبحانه وتعالى لم يأخذ على الجهال أن يتعلموا، إلا بعد أن أخذ عهدا على العلماء أن يُعَلِّموا. يقول القرآن الحكيم: "وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ" (آلعمران /187)، ويوم القيامة سيُغفر للجاهل سبعون خطيئة، قبل أن تُغفر للعالم خطيئة واحدة كما جاء في الروايات.
مسؤولية الجماهير
ما مرّ كان يمثل مسؤولية الطليعة، أما مسؤولية الجماهير المؤمنة، فهي أن تتخذ أقصى درجات الحيطة والحذر وهي تعيش وسط الكم الهائل من الافكار والثقافات التي تمتطي وسائل الاتصال المتعددة والمتنوعة والسهلة الوصول، وليس هنالك من معيار واضح أو علامة فارقة على سقم هذه الفكرة وصحة تلك، فالكل (يدّعي وصلاً بليلى ...)، لكن على الأقل بامكان الواحد منّا أن يتحرّى خلفية مؤلف الكتاب الذي يريد اقتناءه أو البرنامج الذي تبثه فضائية ما، أو الجهة التي تمول هذا المشروع الاعلامي أو ذاك المشروع الثقافي، فالتوجه والخلفية الثقافية والفكرية تعكس بالضرورة سلوك ولغة المطبوع أو المرئي من وسائل النشر الثقافية.
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس)1. ونقرأ في القرآن الحكيم قول الله سبحانه وهو يعيِّر الذين يتبعون آباءهم من دون علم ولا هداية: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنْزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَيَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" (المائدة /104).
وقد يحصل أن يغتر الانسان بالأجواء المحيطة به عندما يرى ميل الغالبية من الناس الى توجه معين أو سلوك اجتماعي أو ظاهرة ثقافية، فينضمّ اليهم دون تردد، وهذا ما ينهى عنه القرآن الكريم بشدة، فهو يأمر بالمقابل اتخاذ المهتدين قدوة وقادة لأنهم توصولوا درجة يتمكنون من خلالها هداية الآخرين الى الطريق الصحيح، لا أنهم يعيشون التناقض والازدواجية ويريدون أن يلتحق بهم الناس، يقول الله سبحانه وتعالى: "أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَّ يَهِدِّي إِلآَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" (يونس /35)، وفي آية كريمة ترى ابراهيم (عليه السلام) يقول لأبيه: "يَآ أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً" (مَريم /43)
ان الآباء عادة يفرضون على أبنائهم إتباعهم، ولكن ابراهيم عليه السلام نصح أباه أن يتبعه، لأنه يحمل العلم، وصاحب العلم هو الذي يُتبع وليس صاحب الجهل. يقول الإمام الصادق عليه السلام لأحد أصحابه: (لا تكون إمّعة، تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس).
من هنا يتوجب على الفرد في المجتمع معرفة الحق لمعرفة أهله – كما جاء في حديث أمير المؤمنين –عليه السلام- وأخذ العلم والمعرفة والثقافة من مصدرها الصافي ومعينها الذي لا ينضبّ،
نقرأ في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الله لا يقبض العلم إنتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، إتّخذ الناس رؤساء جهالا فَسُئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلّوا وأضَلّوا).
أي إن الله سبحانه وتعالى حينما يريد أن يعاقب أمة لا تحترم علماءها الحقيقيين، فإنه يقبض العلماء إليه، فيبقى الناس بدون علماء، فيتخذون رؤساء جهالا، مثل ما نرى في كثير من البلدان الإسلامية من حكام يتخذون مال الله دولا وعباده خولا، ويعيثون في الأرض فسادا، وتعاني منهم الأمة صنوف الشقاء وضروب البلاء.
حينما أرسل الأنبياء لهداية البشرية، قاومهم الكثير من الناس بحريتهم، فهناك الكثير من البشر كانوا مضلّلين، وكانوا يستخدمون حريتهم في سبيل تكريس إنحرافهم وجهلهم وغفلتهم، وبالتالي تكريس الفساد في أنفسهم ومجتمعهم