علي.. حاكمية الانسان
|
*نزار حيدر
هل يحق لاحد ان يفرض نفسه حاكما على الناس بالتعيين – مثلاً- او بالوراثة او بالانقلاب العسكري والمؤامرات العسكرية او بالامر الواقع في اطار نظرية التمكن بالقوة، او ما يعرف بالنصوص التاريخية بنظرية الدعوة الى النفس (الاستيلاء)؟
وهل يحق لاحد ان يجبر الناس على الايمان بما يؤمن به هو، او ان يقسرهم على الاخذ برأيه مهما كلف الثمن، او ان يحتكر الحقيقة فلا يقبل من غيره رأياً او حجة، ولا يسمح لاحد بالتفكير بطريقة مغايرة؟
واخيراً، هل يحق لاحد ان يرهب الناس لاتخاذ موقف ما، او ان يسلبهم حرية الارادة او حرية الاختيار، من خلال فرض نفسه كوصي عليهم بصفتهم قاصرين لا يميزون بين الصالح والطالح من المصالح العامة؟
في ذكرى ولادته المباركة في الثالث عشر من شهر رجب الأصبّ، أتوجه بالسؤال الى امامنا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، لاستشرف بكلامه وخطبه ورسائله الاجوبة الصحيحة على تلك الاسئلة التي طالما شغلت المسلمين، الذين ابتلوا بانظمة ديكتاتورية واستبدادية فرضت نفسها على الانسان، تارة بالحديد والنار واخرى بالتضليل وثالثة بالترغيب و... غيرذلك.
ولاشك إن السؤال من أمير المؤمنين يمر حتماً من خلال آيات القران الكريم، على اعتباره القرآن الناطق، من جهة، ولكونه التجسيد الحي لآياته البينات من جهة آخرى، خاصة على صعيد الحكم وادارة الدولة. فالقرآن الكريم يرفض، بشكل قاطع، كل انواع الاكراه والفرض والاجبار، سواء في الايمان والدين او في الفكر والثقافة او حتى في السلطة، يقول تعالى في الايات القرآنية التالية: "وما على الرسول الا البلاغ المبين"، "فذكر انما انت مذكر* لست عليهم بمسيطر"، "ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن* ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين". "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ..."، وغيرها من الآيات التي تؤكد حرية الانسان في رأيه وفكره في إطار الدين.
وبمجموع هذه الايات وغيرها، يشرعن القرآن الكريم المعارضة ضد الاستبداد بكل اشكاله. وتتجلى هذه المنظومة الفكرية الحضارية الراقية في مستويين: الاول؛ في حرية الاختيار. والثاني؛ في حرية التعبير.
فعلى المستوى الاول، تتجلى الحرية في اختيار الحاكم والانتماء للجماعة والمدرسة الفكرية والسياسية التي يراها الانسان مناسبة له اكثر من سواها. وعلى المستوى الثاني، تتجلى الحرية في تبني السياسات العامة، القبول او الرفض، المعارضة، الاعلام، والقول او اختيار السكوت، والتجمع والتظاهر، وغير ذلك.
على الصعيد الاول، فان امير المؤمنين عليه السلام لم يفرض نفسه حاكما على احد، فهو لم يسع الى السلطة بالقوة او بسلاح الميليشيات، على الرغم من علمه ويقينه، وكذلك الناس جميعا، بانه احق الناس بها، وهو القائل (لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري)، او في قوله بالخطبة الشقشقية (اما والله لقد تقمصها فلان وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى الي الطير)، انما سعت اليه السلطة فقبلها استجابة لموقف الراي العام الذي لم يجد في غيره اهلا لها، وهو القائل يصف الموقف (فما راعني الا والناس كعرف الضبع، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم)، ففي رأي الامام، يُعد اغتصاب السلطة او فرض الحاكم نفسه على الناس من دون تفويض او قبول، منقصة لحاكمية الانسان، ومرفوضة بكل المعايير الدينية والعقلية والمنطقية.
المعارضة في رؤية الامام علي
ان اعظم ما انجزه الامام عليه السلام على مستوى حاكمية الانسان في الدولة الاسلامية، هو انه شرعن المعارضة للحاكم، من خلال احترامه لها وحمايتها وعدم المساس بها، وقد تجسّد ذلك فيما يلي:
أولاً: لم يمنع معارض من السفر كما فعل الخليفة الاول، فعندما اراد طلحة والزبير ان يغادرا المدينة المنورة الى مكة المكرمة، بعد ان فُرض عليهما الحكم الاقامة الجبرية مدة مديدة، فاستاذنا الامام، وهو الخليفة والحاكم الذي بايعه الاثنان كبقية المسلمين من المهاجرين والانصار، بحجة انهما يريدان اداء مناسك العمرة، فاذن لهما الامام وهو يعرف جيدا ما يبيتان من مؤامرة يجران فيها الامة الى فتنة عمياء، ألا وهي معركة الجمل، قائلا لهما: (والله ما تريدان العمرة وانما تريدان الغدرة).
ثانيا: رفض ان يسقط الخوارج من ديوان العطاء، او ان يمنعهم من دخول المسجد، بعد ان ثبت انهم يعارضون السلطة اشد المعارضة، وعندما قيل له: يا امير المؤمنين، ان بين اصحابك من يريد ان يتركك ويلتحق بالاعداء، فماذا اعددت لذلك؟ فقال عليه السلام قولته المشهورة: (اني لا آخذ على التهمة ولا اعاقب على الظن).
ولشدة حرص الامام على تعليم الناس فن المعارضة و ابداء الراي الاخر امام الحاكم، قال مرة للخريت بن راشد، الذي ظل يصرّ على الامام ليقتل الخوارج او على الاقل ان يعتقلهم ويزج بهم في السجن حتى قبل ان يبادروا الى شيء، بحجة انهم يتآمرون على الحكم، وان اثنين منهما وهما عبد الله بن وهب وزيد بن الحصين الطائي، يقولان في الامام، الحاكم، قولا لو ارتقى الى مسامعه لقتلهما او زجهما في السجن: اني مستشيرك فيهما فبماذا تشير؟ فاجابه الخريت: اشير عليك ان تستدعيهما وتضرب اعناقهما.
لقد رفض الامام هذا التوجه، قائلا بما معناه: لقد كان ينبغي لك ان تعلم اني لا اقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوة، كان ينبغي لك، لو انني اردت قتلهم، ان تقول لي، اتق الله، فبم تستحل قتلهم ولم يقتلوا احدا ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك؟ كما انه عليه السلام رفض ان يقاتلهم احد من بعده مبررا لهم مواقفهم المعارضة للسلطة بقوله: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فاخطاه، كمن طلب الباطل فادركه)، وكانه يريد ان يقول بان الخوارج عارضوا السلطة ظنا منهم انهم على حق، ولذلك فان حالهم يختلف جذريا عن حال من يعارض السلطة لينال الباطل بسهمه.
ثالثاً: عندما ضربه عدو الله ابن ملجم بالسيف في محراب الصلاة، أوصى عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليهما السلام وعموم بني هاشم بقوله: (لا الفينكم يا بني عبد المطلب تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل علي، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي.. انظروا اذا انا مُتّ من ضربتي هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل، فاني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: اياكم والمثلة ولو بالكلب العقور).
رابعاً: على الرغم من عظم المعاناة التي عاناها الامام من مجتمعه بسبب تمرده عليه تارة، وعدم تفهمه وإطاعته تارةً اخرى، الا ان التاريخ لم يسجل لنا اسم سجين سياسي واحد في دولة الامام علي عليه السلام، مما يعني انه كان يحمي المعارضة ويشجع على الرأي والرأي الاخر، كما انه لم يشأ ان يقمع حرية التعبير باي شكل من الاشكال.
خامساً: أسس عليه السلام لمعارضة حقيقية، فكان يرفض المعارضة من اجل ابتزاز الحاكم او فرض الامر الواقع، ولذلك فهو عليه السلام كان قد مارس المعارضة الايجابية في عهد الخلفاء الثلاثة، فلم يكن ليتوانى عن قول الحق وان كان مراً على السلطة، او ان يسكت على باطل وان كلفه الكثير، لان هدف المعارضة في نهج الامام هو الرقابة والمساءلة والاصلاح، بعيداً عن الابتزاز لتحقيق المصالح الذاتية والانانية، أو ليس هو القائل لما عزموا على بيعة عثمان (لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري، و والله لاسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور الا عليّ خاصة، التماسا لاجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).
الدولة الناصحة
لقد أسس عليه السلام لمفهوم حضاري في غاية الاهمية تتلخص فلسفته في ان السلطة التي تنشد بناء المواطن الصالح الذي يتحمل واجباته ازاء بلده وشعبه والسلطة الحاكمة، عليها اولا ان تصنع منه المواطن الواعي العارف بالامور غير الجاهل بالقضايا العامة، ومن اجل ذلك فان عليها ان لا تحجب عنه المعلومة الصحيحة التي لا تصيبه بالعمى والجهل، كما ان عليها ان تطلعه على حقوقه كاملة ليعرف كيف يتصرف ويتعامل مع الامور.
فكيف يمكننا ان نبني المواطن الصالح اذا كان الحاكم يستغفله ويستخف بعقله ويقصر في تعليمه؟ وكيف يمكننا صناعته اذا كانت السلطة تحجب عنه المعلومة الصحيحة بحجج واعذار شتى؟ ثم كيف يمكن ان ننتظر من مثل هذا المواطن ان يتحمل المسؤولية وواجباته ازاء وطنه ومجتمعه، وهو الذي لا يميز بين الحقوق والواجبات، او انه لا يعرف حقوقه ولم يسمع الا حديث السلطة عن حقوقها وواجبات المواطن؟
نعود الى (نهج البلاغة)، هذا السفر العظيم الذي هو حقاً كلام (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق)، يختصر عليه السلام الإجابة على السؤال الآنف الذكر بقوله: (ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فاما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتاديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم).
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وجميع المؤمنين لأن نصل الى تلك المرتبة التي نكون فيها بمستوى وصايا ونهج أمير المؤمنين عليه السلام.
|
|