الشعراء الشيعة.. روّاد الشعر العربي
|
*حيدر ناصر
دلت الآثار والمصادر التاريخية والادبية على ان الشعراء الشيعة كانت لهم الريادة في جميع فنون الشعر في التاريخ الاسلامي وفي كل العصور وقد شهد لهم معاصروهم من الشعراء والمؤرخين والنقاد والقدامى والمحدثين على تفوقهم وتقدمهم على غيرهم حتى قيل: (خير الشعر شيعي كوفي). وقد امتاز الشعر الشيعي عن غيره بصدق العاطفة وقوة المعنى لان الباعث الذي حدا بالشاعر الى القول لم يكن دنيوياً بل كان نابعاً عن ولاء مطلق وتمسك خالص بمنهج أهل البيت عليهم السلام دون ان تكون هناك دوافع دنيوية ويتجلى ذلك في قول الكميت بن زيد الاسدي في قوله للإمام الباقر عليه السلام، كما في الاغاني ج 15 ص 118 حينما أمر له بجائزة على قصيدة قالها في رثاء الحسين عليه السلام: (والله ما احببتكم للدنيا ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه ولكنني احببتكم للآخرة). كما كانت المآسي التي جرت على أهل البيت عليهم السلام وخاصة في كربلاء والظلم الذي تعرضوا له من قبل السلطتين الاموية والعباسية باعثا آخر أججّ مشاعر الشعراء فرسموا صوراً مؤثرة صادقة بألفاظ رقيقة ومعانٍٍ حزينة اعتمدت على صياغة الحقيقة التاريخية بقوالب فنية معبرة وربما تجاوز هذا الشعر اغراض الحزن والتفجع الى الرفض والمطالبة بالثورة على الظالمين بمعان واضحة تحدت ظلم السلطة وقد تجسد ذلك في شعر دعبل الخزاعي ومواقفه وخاصة في قولته الشهيرة (إني أحمل خشبتي على كتفي عشرين عاماً لا أجد من يصلبني عليها).
الانطلاقة مع فجر الاسلام
وفي استقرائنا لشعراء التاريخ الاسلامي في كل العصور نرى ان طليعتهم ومتقدميهم وفحولهم هم من الشيعة، وفي كل الفنون هم رواده، فهم السبّاقون الى كل غاية والمتقدمون في كل فن منذ صدر الاسلام وحتى العصر الحديث، فلو تتبعنا الشعراء من الصحابة نجد جلّهم من الشيعة الاجلاء، وكان منهم من عرف بالشعر قبل الاسلام كالنابغة الجعدي وهو من شعراء الجاهلية والاسلام وقد حضر أمير المؤمنين عليه السلام حروبه الثلاثة، ومن شعره في صفين:
قد علم المصران والعراق
إن علياً فحلها والعتاق ُ
أكرمُ من شدّ به نطاقُ
ان الأُولى جاروك لا أفاقوا
ومن الشعراء المخضرمين الكبار أيضاً كعب بن زهير صاحب القصيدة المشهورة (بانت سعاد) الذي يقول :
صهر النبي وخير الناس كلهم
فكل من رامه بالفخر مفخور
صلى الصلاة مع الأمي أولهم
قبل العباد ورب الناس مكفور
ومنهم ايضاً لبيد بن ربيعة العامري الذي عدّه السيد محسن الامين في (اعيان الشيعة ج1 ص167) والميرزا عبد الله الاصفهاني في (رياض العلماء ج 4 ص416) من شعراء الشيعة، اما شعراء الشيعة من الصحابة من الذين ذاعت شهرتهم بالشعر في صدر الاسلام فهم كثيرون منهم عامر بن واثلة الصحابي الشاعر وخزيمة بن ثابت الانصاري (ذو الشهادتين) وابو الطفيل الكناني وغيرهم، اما من طغت شهرته بالشعر على غيرها فأبو الاسود الدؤلي الذي عده ابن البطريق في (العمدة ص10): (من الفضلاء الفصحاء ومن الطبقة الاولى من شعراء الاسلام وشيعة علي بن ابي طالب عليه السلام)، اما في العصر الاموي فقد كان زمام الشعر وريادته بيد الشيعة رغم الاضطهاد والظلم الذي مورس ضدهم من قبل الامويين وقد بزّوا اقرانهم وسبقوهم الى فنون اتبعها الشعراء وبعدهم ونبغوا في جميع اغراض الشعر باعتراف كبار شعراء عصرهم. فهذا جرير يعترف للفرزدق بشاعريته عليه بقوله: (الفرزدق نبعة الشعر بيده) أي اشعر الناس، اما الكميت فـ (لولا شعره لم يكن للبيان لسان ولا للغة ترجمان) و (اشعر الاولين والآخرين) وهذان القولان لعلمين من أعلام النحو والادب في عصريهما هما ابن عكرمة الضبي وابو مسلم الهراء.
هوية الولاء
كما كان شعراء الشيعة روّاد الاغراض والفنون ومؤسسيها في الشعر، فأول من أطال المديح كُثير، كما في (العمدة لابن رشيق ج1 ص 208) وأول من اكثر في معنى واحد السيد الحميري كما في طبقات الشعراء لابن المعتز وهذا المعنى الذي انفرد به شعر السيد الحميري هو مديح أهل البيت عليه السلام فقد روى صاحب التذكرة (انه كان للسيد الحميري اربع بنات كل واحدة منهن تحفظ اربعمائة قصيدة لابيها كلها في فضل امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ومناقبه وما مثله في نظم الحديث وكل قصائده طوال). ثم قال: (وكان ـ اي السيد شيعياً مجاهراً) وقد حظي السيد الحميري بشهادة يحق له ان يفخر بها على شعراء الدهر وهي قول الامام الصادق له : (انت سيد الشعراء) فأنشد في ذلك :
ولقد عجبت لقائل لي مرة
علّامةً فهمُ من الفقهاء
سمّاك قومك سيداً صدقوا به
انت الموفقُ سيد الشعراء
ما أنت حين تخصّ آل محمد
بالمدح منك وشاعر بسواء
مدح الملوك ذوي الغنى لعطائهم
والمدح منك لهم بغير عطاء
ما يعدل الدنيا جميعا كلها
من حوض احمد شربة من ماء
أما في العصر العباسي الاول فليس في المولّدين أشهر من الحسن بن هانئ (أبي نؤاس) وقد أجمع مؤلفو الشيعة ومؤرخوهم وأعلامهم على تشيعه واستدلوا على ذلك بنماذج من شعره، منها لما عوتب على تأخره عن مدح الإمام علي بن موسى الرضا
عليه السلام:
قيل لي انت أوحد الناس طراً
في فنون من الكلام النبيه
لك من جوهر الكلام بديع
يثمر الدر في يدي مجتنيه
قلت لا أهتدي لمدح إمام
كان جبريل خادماً لأبيه
ويأتي بعد أبي نؤاس من المولدين أبو تمام والبحتري وقد (اخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد)، كما في (العمدة) لابن رشيق ج1 ص212، فشعر البحتري (سلاسل الذهب) وابو تمام (صقل المعاني)، ويتبعهما ابن الرومي وكلهم من الشيعة. ويشارك ابن الرومي ابا تمام بخاصية انفرد بها عن باقي الشعراء وهي انهما كانا (اكثر المولّدين اختراعا وتوليداً)، (فلابن الرومي معان لم يسبق اليها يغوص على المعاني النادرة ويستخرجها من مكانها ويبرزها في احسن صورة ولا يترك المعنى حتى يستوفيه الى اخره ولا يبقى فيه بقية)، كما يقول (الصولي) وفي طبقة ابي تمام والبحتري من فحول الشعراء الشيعة ديك الجن دعبل وهما (ممن لم ينتجعا بشعرهما خليفة ولا أميراً ولا غيرهما وتقدما بهذا الشرف على طبقتهما). وفي طبقتهما ايضاً ابو الشيص الخزاعي، ابن عم دعبل والحسين بن الضحاك ويأتي بعدهم الحسين بن الحجاج البغدادي فريد زمانه في الابتكار وديوانه عشرة مجلدات. وأول مكثر مجيد السيد الشريف الرضي أشعر الطالبيين (لايذكر معه شاعر). أما أول من اخترع الموشّح المضمّن فهو صفي الدين الحلي الذي يقول:
فوا الله ما اختار الإله محمداً
حبيباً وبين العالمين له مثل
كذلك ما اختار النبي لنفسه
علياً وصياً وهو لابنته بعل
وصيّره دون ؟الأنام أخاً له
وصنوا وفيهم من له دونه الفضل
وشاهد عقل المرء حسن اختياره
فما حال من يختاره الله والرسل
شعر و إبداع
ومن شعراء الشيعة من كان لايبارى وهو مهيار الديلمي وله ابن مثله في الشعر. ومنهم من تربع على عرض الشعر فاضحى ملكاً له وهو ابو فراس الحمداني كما يقول الثعالبي في (اليتيمة) ج1 ص57 (بدأ الشعر بملك وختم بملك)، يعني إمرؤالقيس و أبا فراس.
ومن بلاد المشرق الى المغرب، حيث بلغت نسائم الولاء الى قلوب شعراء الاندلس فكان أشعرهم على الاطلاق وباتفاق جميع المؤرخين ابن هانئ الاندلسي. قال ابن خلكان وفي (وفيات الاعيان) ج4 ص424 : (وليس في المغاربة من هو في طبقته لا من متقدميهم ولا من متأخريهم بل هو أشعرهم على الاطلاق وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة وكانا متعاصرين).
ومن شعراء الشيعة من حاز على عدة علوم وبرع فيها كلها وكان متكامل الجوانب والاوصاف ولا عديل له في عصره، وهو كشاجم الذي عده ابن شهر آشوب في (معالم العلماء) من شعراء اهل البيت عليهم السلام و اول من نشأ في فن من فنون الشعر واشتهر به فلُقب (بالناشئ) هو علي بن عبد الله بن وصيف من متكلمي الشيعة وشعرائهم الكبار صاحب القصيدة المشهورة:
بآل محمد عرف الصواب
وفي أبياتهم نزل الكتابُ
وهم حجج الإله على البرايا
بهم وبجدهم لايسترابُ
أما اول من زها في جميع فنون الشعر حتى لقب بـ (الزاهي) فهو علي بن اسحق بن خلف البغدادي وقد افاض المؤرخون في ترجمته وسموه بـ (احد افراد الدهر) و (من المجاهرين في مدح أهل البيت)، اما أول أمي أُوتي المعجز في شعره فهو نصر بن احمد الخبزأرزي، وهناك أمي آخر هو محمد بن احمد بن حمدان المعروف بـ (الخباز البلدي) الذي عده الثعالبي في يتيمته ج2 ص245 (من حسنات الدنيا) ثم قال: (ومن عجيب امره أنه كان أمياً وشعره كله ملح وتحف وغرر وطرف ولا يخلو مقطوعة من معنى حسن او مثل سائر وكان حافظاً للقرآن مقتبساً منه في شعره)، الى ان قال (وكان يتشيع ويتمثل في شعره بمذهبه).
وتطول قائمة شعراء الشيعة الذين نبغوا في فنون الشعر وكانوا روّاده في ابتكار الاغراض والاساليب فأول الفاتحين باباً للاستخدام بسهولة وانسجام الوادعي الكندي صاحب (التذكرة الكندية) في خمسين مجلداً في جميع فنون الشعر الذي اخذ عنه ابن نباته ومن شعراء الشيعة من (لم يوجد قبله بمائتي سنة من يضاهيه) كما وصفه ابن خلكان في وفيات الاعيان ج4 ص 473 وهو سبط بن العاويذي ثم قال: (كان شاعر وقته، جمع شعره بين جزالة الالفاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها) وقال الصنعاني في نسمة السحر ج3 ص166 : (وقفت على ديوانه وهو حقيق بما أطراه ابن خلكان وكان من كبار الشيعة).
وهذا الموضوع اكبر من ان يحصر هنا فهناك اسماء واسماء لامعة كثيرة من شعراء الشيعة الذين احتلوا مركز الصدارة في الشعر وفي كل العصور.
|
|