الانسان بين التخيير والتسيير؟!
|
*يونس الموسوي
إن الذين لم يأخذوا دينهم عن رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليهم وقالوا (حسبنا كتاب الله)، وراحوا يفرضون آراءهم على الدين وعلى القرآن، لن يصيبوا الحق ويكونوا معرضين دائماً للسقوط في شرك عظيم، لا سيما في الموضوعات الشائكة مثل البحث في ذات الله أو صفاته عزّ اسمه، أو بالنسبة إلى الآيات المتشابهة التي لا يدرك مغزاها إلا نبي أو وصي، فهما الأقدر على بيان تفسيرها الصحيح.
ومن بينها تلك الآيات التي تتحدث عن (الكافرين) وكيف أن الله سبحانه ختم على قلوبهم ولم يهدهم إلى سواء السبيل، وانه كتب عليهم الضلالة، والكثير الكثير من الآيات التي تظهر تدخلاً غيبياً في صميم عقيدة البشر، حتى يظن من يريد تفسيرها حسب رأيه بأن الله سبحانه كتب عليهم الضلالة منذ تكونهم في بطون أمهاتهم، وأنهم مجبرون على الكفر والإلحاد.
والذين فسروا الآيات التي جاء فيها ذكر «وجه الله» و «يد الله» وغيرها وقعوا في الشرك لأنهم جعلوا لله عزوجل وجهاً ويداً وأنزلوه تعالى شأنه، منزلة البشر ووضعوه موضع المخلوق الضعيف ذي الجسم المادي، ولو أنهم رجعوا إلى النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم في هذه الآيات، لما سقطوا في هذا الشرك القاتل.
وليس المقصود هنا حجر العقل وإقصائه عن دوره الطبيعي في التفكير، فأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يدعونا إلى التفكر والتدبر، ولكن بعد أن نعرف الخط العام للآية، وهو أن نأخذ تفسيره من النبي الاكرم وأهل بيته ومن ثم نتفكر في تفاصيلها وأجزائها، وهناك آيات محكمة ومتشابهة، فالمحكمة هي ظاهرة المعنى والمتشابهة هي التي إشتبه معناها واختلفوا فيها ويجب الرجوع بشأنها إلى النبي إن وجدله رأي فيها وإلى الإمام إن لم يوجد.
ومن الأمور التي اختلف فيها المسلمون منذ القدم هي (الجبر والتفويض)، فأما الذين اتبعوا آراءهم فوقعوا بالشرك والضلالة وقادهم ذلك إلى الكفر، وقد وردت أحاديث بشأنهم وتحرم التعامل معهم ففي الحديث عن الامام الصادق عليه السلام قال: (من زعم أن الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبحته ولاتقبلوا شهادته، ولا تصلوا وراءه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً) - بحار الأنوار، ج5، ص11-.
فهؤلاء يقولون بأن الانسان لا مشيئة له وأنه مجبر على فعل الأشياء، وأن إرادة الله فوق إرادته وإنه عاجز عن مقارعة إرادة الرب، لذا فهو لا يملك إرادة أو مشيئة من نفسه. وإذن؛ له ان يفعل ما يريد دون حساب.
ومن يفكر في شؤون الخلق والحياة من دون مراجعته النص الديني وتفسيره هو بلا شك يسقط في مثل هذا التفكير ويميل نحو هذا المعتقد الفاسد، ذلك انه يلاحظ نشأة الانسان وهو يخرج من بطن أمه بلا إرادة واختيار من نفسه، ثم لا يقدر على شيء من الكلام والتفكير، وإن احتاج الى شيء فان أمه هي التي تلبي له ذلك. وهكذا يستمر الانسان في مراحل حياته يحتاج الى الآخرين بدءاً من الجنس المخالف – الزوجة- الى بقية أفراد المجتمع ليضمن بقاءه في الحياة.
وكلما كبر الانسان ونمى جسمه وكبر عقله شعر أكثر فأكثر بالنقص والحاجة، فهو يمرض ولا يعرف لماذا مرض؟ ويغيّب الموت احياناً اقرباء له، وهو يجهل سبب موتهم، وهناك من يرحل عن الدنيا وهو في مقتبل العمر وهناك من يستمر في الحياة حتى يملها وتمله. فلماذا إنقطع خيط الحياة عن ذلك الطفل؟ ولماذا هو مستمر في هذا السن؟
هناك أفراد يصابون بالأمراض منذ نعومة اظفارهم وتستمر معهم حتى السنين الأخيرة والمتبقية من أعمارهم، بينما هناك أشخاص قلّما يصابون بالمرض في طفولتهم أو عند كبرهم، فلماذا لابد أن يصاب ذلك بتلك الأمراض؟ ولماذا لا يصاب هذا بنفس الأمراض؟ وهناك أفراد يتنعموّن برغد العيش والغنى والثروة منذ نعومة اظفارهم وحتى مماتهم، بينما هناك أفراد يتذوقون طعم عذاب وألم الفقر منذ الصغر وحتى آخر العمر. وهكذا أسئلة تستمر وتتواصل لتعبر عن عجز الانسان عن تغيير الكثير من الثوابت والتقديرات في حياته. لكن كل ذلك لا يدل على عدم مشيئة الانسان وعدم امتلاكه للإرادة لسبب بسيط و واقعي وبإمكانك ملاحظته بسهولة، فأية حركة أنت تقوم بها هي ذات تأثير في الحياة حتى وإن كانت حركة بسيطة، فلو تفوهت بكلمة حسنة أو سيئة ستلاحظ بسرعة تأثيرها على الطرف المقابل، فلو شتمته سيأتيك رد فعله بأسرع ما يكون، والعكس بالعكس إذا أحسنت إليه وشكرته.
أما بالنسبة إلى الأمثلة التي اوردناها في بداية الحديث، حول الإصابة بالأمراض، والفقر والغنى وغير ذلك، فهذا موضوع يدخل في باب القضاء والقدر وهما بحران عميقان لا يقتحمهما أيّ احد وهما مختلفان عن موضوعي الجبر والتفويض. فالانسان هو ذو إرادة وغير مجبر على فعل الأشياء بدليل انه مختار على ما يريد من القول ومن الفعل.
وللإنسان إرادة ومشيئة حتى بالنسبة إلى الموضوعات التي قلنا أنها تدخل في القضاء والقدر، وإنما أخفي دور الانسان في تلك الأمور لإتمام سنة الابتلاء، فقد جعل الله سبحانه الرزق في أمور اصبحت تعبدية لكتابة الثواب عليها، وكذلك الحال بالنسبة لطول العمر والسلامة، فقد جعل عزوجل طول العمر في صلة الرحم والرزق كذلك، وإنما أخفي عنهم ذلك حتى من يريد أن يفعل هذا العمل الحسن إنما يفعله طلباً للثواب وليس لأجل المادة وطول العمر، وما من حال من أحوال الناس إلا وهي متصلة بفعل من أفعالهم ولكنهم وبسبب جهلهم بعلاقة تلك الأفعال وعلاقتها بتلك النتائج فهم يظنون أنهم لا إرادة لهم في حياتهم.
إذن؛ الفقير هو الذي يصنع فقره، والغني هو الذي يصنع ثروته، والمريض هو الذي يخلق المرض لنفسه، والسليم هو الذي يخلق السلامة لنفسه، فهناك من الذنوب التي يرتكبها الانسان تجلب له الفقر وهناك ذنوباً أخرى تجلب له المرض، وهناك من الذنوب ما يقصم عمر الانسان ومن أعظم الذنوب أن يقول الإنسان بالجبر، لأنه بهذا الطريق يلقي بسيئاته على الله تعالى شأنه، لأنه عزّوجل خلقهم وخيّرهم بين طريقين طريق الصلاح وطريق الفساد وإن لم يكونوا أصحاب إرادة ما خيرهم، وما حاسبهم وما عاقبهم على ذنوب ارتكبوها قسراً ومن دون إرادة منهم.
وفي بطلان الجبر قال الامام علي عليه السلام: (لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسيء لائمة، ولا لمحسن محمدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب، والمذنب أولى بالاحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن...) - بحار الأنوار، ج5،ص13-. وفي حديث آخر يبين الامام الكاظم عليه السلام حقيقة الكبر ويقول: (إن السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث: اما أن تكون من الله وليست منه، فلا ينبغي للرب أن يعذب العبد على ما لا يرتكب، وربما أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك، فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد وهي منه، فإن عفا فبكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته). - بحار الأنوار، ج78، ص224-.
|
|