السلام والأمن. . رؤية في رحاب القيم الدينية وليس في إطار كرسي الحكم
|
*إعداد / بشير عباس
العالم اليوم يعيش هاجساً ملحاً يتمثل في البحث عن السلام، ويعود ذلك الى عدة اسباب:
السبب الأول: المعاناة الشديدة التي عانى منها العالم طيلة القرن الماضي والتي شملت أنحاء كبيرة من العالم بما يسمى بالحروب العالمية.
السبب الثاني: التهديد الماحق لاسلحة الدمار الشامل، فقد بات التراكم والتعاظم لهذه الاسلحة مصدر تهديد خطير ليس فقط لحياة بعض الناس، وانما لسائر الكائنات الحيّة فوق هذا الكوكب، بحيث انه لو استخدمت فان ليل ما يسمى بـ(الشتاء النووي) سوف يسود العالم، الى درجة تنعدم فيه امكانية العيش في الارض، كما تتعرض الحيوانات للانقراض كما حصل بالنسبة للدايناصورات في سالف الزمان.
السبب الثالث: الحروب التي تشتعل هنا وهناك اصبحت هي الاخرى سببا لازعاج العالم، والسبب ان مناطق وشعوب العالم سابقاً كانت متباعدة عن بعضها البعض، فقد كان لكل قارة بل لكل بلد ومدينة ظروفها الخاصة، وربما تقع حرب في منطقة ولا تدري بها المنطقة الاخرى، بينما اليوم بات العالم بمنزلة قرية صغيرة يتأثر بعضه بالبعض الاخر، بحيث أي حركة في أي منطقة بالعالم ايجابية او سلبية تجدها تأثر في سائر انحاء العالم. مثلاً... الحرب في افغانستان تترك أثرها على البورصات في طوكيو، فيما تتأثر العجلة الاقتصادية في امريكا بسبب الحرب في الصومال، وهكذا القائمة تطول. هذه الاسباب الثلاثة تدعو العالم الى البحث الجدّي عن السلام، لكن السؤال؛ أين السلام؟
في هذه الايام يجتمع زعماء وممثلو معظم دول العالم في مبنى الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك ليتداولوا الحديث عن الصورة التي يجب ان يكون عليها عالم القرن الجديد -الواحد والعشرين-. فقد جاء الزعماء وهم يحملون أزمات ومشاكل متنوعة ومتعددة... فالمشاكل نجدها في فلسطين وفي اليمن وفي الصومال واليونان، ومشاكل عديدة تعمّ معظم مناطق العالم. لكن المشكلة الكبرى ان هذه المشاكل والازمات بدورها اكبر بكثير من القادة والمفكرين واصحاب القرار في هذا العالم، بمعنى ان العالم اليوم يقف عاجزاً عن حلّ معظم المشاكل والازمات التي تحيط بسكان الارض. وهذا تحقق نبوءة الأئمة الاطهار صلوات الله عليهم، حيث جاء في الحديث الشريف: (ستأتي عليكم فتن تدع الحليم حيرانا...)، بمعنى حتى الحكيم و الحليم يصبح حيراناً عاحزاً عن مواجهة هذه الفتن.
العالم تحتوشه الازمات
هناك مشكلة اخرى وكبيرة وهي ليست ببسيطة، ألا وهي المشكلة الاقتصادية، فحسب تقديرات المنظمات الدولية المهتمة بوضع الاقتصاد كصندوق النقد الدولي وغيره فان العالم يعيش خطر الكساد التجاري، او بعبارة اخرى يواجهه السبات الاقتصادي، والحقيقة ان معظم دول العالم تعيش هذا الواقع. وبذلك يجب ان ننتبه بان التضخم الذي يسود امريكا لن ينحصر في هذا البلد، انما سيتم تصديره الى بلادنا، علماً ان الغربيين يتقنون فن تصدير ازماتهم، فهنالك خبراء لديهم يجلسون ويخططون لهذا الامر.
طبعاً الى جانب الازمة الاقتصادية هنالك مشكلة التصحّر في افريقيا وفي مناطق اخرى من العالم تقضّ مضاجع الشعوب، وهي فرع من فروع الاقتصاد. هذه الظاهرة التي تترك أثرها على الوضع الاقتصادي للشعوب، مرتبطة بشحة المياه، بمعنى أن السماء تحبس قطرها عن الارض، وتكون عندنا شحة في الامطار. وهنا نتساءل؛ هل ان الله تعالى – حاشاه- ترك عباده لشأنهم ؟ الاجابة تأتينا في في سورة الروم حيث تقول الآية الكريمة: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم /41). فالغازات السامة المنبعثة من المصانع والتي عجزت المؤتمرات الدولية من ضبطها والحدّ منها، هي المسؤولة عن ارتفاع نسبة حرارة الطقس. فقد شهد العالم بأسره صيفاً لاهباً هذا العام لم يسبق له مثيل. فالعراق لم يكن وحده الذي واجه هذه الظاهرة، انما معظم بلاد العالم، فحتى النصف الشمالي من الكرة الارضية الذي من المفترض ان يكون بعيداً عن حرارة الشمس، بلغته درجات حرارة غير معهودة، كما شهدنا في مدينة كربلاء المقدسة درجة حرارة غير طبيعية بلغت (57) درجة مئوية وهو ما لم نعهده في التاريخ.
هذه الظاهرة لن تتوقف لسنة بعينها، انما تستمر، ففي كل سنة سنشهد ارتفاعا جديداً في درجة الحرارة، والسبب ان الغازات المنبعثة من المصانع ومن مزارع البيوت الزجاجية في مختلف انحاء العالم هي التي تسبب في خرق الغلاف الغازي فينقلب عمله الى تسريب أشعة شمس غير صحية وغير مناسبة للانسان على ظهر هذا الكوكب، وعندما ترتفع حرارة الشمس تتعرض الجبال الجليدية التي تحفظ كميات هائلة من الثلوج الى الذوبان، وهذا بدوره ينسحب الى البحار والمحيطات فيرتفع منسوبها وتحدث السيول والفيضانات.
إذن؛ نلاحظ في منطقة معينة هنالك جفاف من قلة الامطار والنتيجة تعرض حياة الانسان لخطر المجاعة، وعندما لايكون هنالك عشب وزراعة وماء، لن يكون هنالك ابقار واغنام ودجاج وغيرها من مصادر الغذاء الاساسية. وحسب الاحصائيات الموجودة فان (11) مليون انسان معرضون للمجاعة والموت في القرن الافريقي، والاطفال يموتون يومياً في هذه المناطق باعداد متزايدة. وفي منطقة أخرى ربما لا تشهد هكذا اوضاع معيشية قاسية، لكنها تواجه الفيضانات التي تكتسح المزارع والانسان والحيوان فتجعلها قاعاً صفصفا. كل ذلك يبين لنا ان نتائج الكوارث والازمات تصيب الحلقات الاضعف من سكان الارض، مثل المزارعين والعمال والطبقة الفقيرة.
الحل....
ان العالم اليوم متعطش الى الحل او خشبة الخلاص التي تنقذه من واقعه المرير وازماته الخانقة. وبين أيدينا القرآن الكريم يقدم لنا الحل في سورة المائدة التي تُعد بالحقيقة (سورة الحضارة) التي ارادها الله تعالى للانسان في الارض، وقد سُميت بـ (المائدة) تقريباً الى الاذهان وتشبيهاً بالمائدة التي تنبسط امام الانسان ليأكل منها، أما هذه فهي مائدة سماوية مهمتها تحقيق الحياة السعيدة لبني البشر. تقول الآية الكريمة: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (الآية 15)، ربنا تعالى في هذه الآية يحدثنا صراحة، أن نحن خلقناكم ونحن نبرمج لكم حياتكم ولا حاجة لأن تتكلفوا باختلاق أنظمة واجراءات من عندكم!
ربما البعض يستصعب الفكرة، لكن لنفترض مصنعاً أنتج جهازاً الكترونياً وطرحه الى الاسواق، فمن الذي سيدلّ الناس على طريقة الاستفادة من هذا الجهاز؟ أليس المصنع والجهة التي أنتجت هذه السلعة؟ انها الجهة الوحيدة التي تعرف برمجة هذا الجهاز ودقائق أموره. وبما ان الله تعالى هو الذي خلقنا وخلق السموات والارض، فقد اعطانا البرنامج المتكامل والمنهاج الصحيح في الحياة، لكننا عمدنا الى تغيير هذا المنهاج وكانت النتيجة، فساد كل شيء.
في هذه الآية الكريمة ثمة عتاب واضح لأهل الكتاب وهو يشمل جميع الديانات السماوية، باننا بعثنا لكم كتاباً كاملاً لكنكم بينتم نصفه للناس واخفيتم النصف الآخر، والسبب هو ان ذلك النصف المستور لم يكن في مصحلتكم ولم يلبي رغباتكم، لكن مع ذلك تتحدث الآية الكريمة عن العفو، فهنالك في الشريعة الاسلامية نوع من التخفيف واليسر في كثير من الاحكام مما يفوق جميع الشرائع السماوية السابقة.
والسؤال هنا: كيف نستفاد من هذا المنهاج والبرنامج؟
اذا تابعنا تتمة الآية الكريمة نجد ان الله تعالى أكمل كل الحجج على العباد: "قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ"، بمعنى ان الانسان لابد له من ضياء ونور حتى يتمكن من السير على قدميه، والانسان في حياته اليومية لابد من نور يهتدي به ومنهاج وهو متمثل في (الكتاب) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد ضمن تعالى صونه من التحريف، فهو البرنامج والمنهاج المتكامل. تقول الآية اللاحقة: "يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الآية 16)، بمعنى ان كل طرق السلام وسبل الوصول الى الامن والسعادة موجودة في هذا الكتاب، ولن يكون الانسان بعد ذلك مهدداً بالسقوط في المهاوي والمهالك لانه التزم كتاباً يخرجه من الظلمات الى النور، أما اذا اجتهد واستبد برأيه وقال: (بامكاني الوصول الى الهدف من خلال طريق آخر)، فان القرآن الكريم يقول له: ان هذا النهج وهذه العقلية تؤدي بالانسان الى استنفاذ طاقته وعمره وربما لا يصل الى هدفه بعد طول زمان، بينما الطريق المستقيم المرسوم من قبل السماء يوصله بكل يسر وسهولة الى هدفه الصحيح.
العودة الى القرآن الكريم؟!
ان بلادنا الاسلامية تُعد اليوم الاكثر توتراً واضطراباً في العالم، فالصين – مثلاً- التي يعيش فيها اكثر من الف مليون انسان أو الهند التي يناهز عدد سكانها المليار، لأن نسمع عن سقوط قتلى وضحايا احداث عنف وارهاب كالذي نسمعه عن بلادنا. مثال ذلك ليبيا التي قدمت حتى الان حوالي 60.000 قتيل وحوالي مئة الف جريح من اجل ان تتخلص من الظلم والطغيان، علماً ان ليبيا ليس فيها نسبة سكانية كبيرة، لذا فان هذا الرقم من الضحايا كبير جداً قياساً الى عدد نفوسها، وكذلك الحال في اليمن، فقد سقط المئات بين قتيل وجريح في الشوارع خلال المواجهات بين المتظاهرين وبين قوى أمن السلطة. وهكذا الحال بالنسبة للبحرين و مصر، فخلال حادثة عنف واحدة لاقتحام السفارة الاسرائيلة في القاهرة اصيب حوالي ألف انسان بجروح! أما في العراق فالجميع يشهد انه يعيش مشاكل تبدأ ولا تنتهي. فهل من حل ونهاية لكل هذه الازمات؟ الجواب بلا.. ان الحل يكمن في اتباع تعاليم السماء، وهذه ليس في الصلاة والصيام فقط، وانما في الاخلاق والتعامل بين بعضنا البعض. فهل من المعقول ان يعيش شعب حالة الاقتتال وهو على أرض واحدة ويدين بدين واحد؟! ان انزل الله تعالى كتابه للبشرية ليتحاكموا اليه اذا حصل خلاف فيما بينهم ويجدوا الحل فيه وينتهي كل شيء.
المشكلة تكمن في نفس الانسان المعاند الذي يقول: سأحكم عشر سنوات، وعندما تنتهي هذه العشر سنوات، يفكر بتمديد هذه الفترة لعشر سنوات اخرى، وهكذا يطوي عقوداً من الزمن يتربع على كرسي الحكم ويجثم على الصدور وبالرغم من الصرخات المدوية برفضه نجده مصرّاً ومعانداً ويبث البيانات بانه ما يزال الزعيم وانه موجود في الحكم.
لقد عرضوا على حاكم بغداد البائد أن اترك العاصمة وخذ معك كل ما تريد ولك ان تذهب الى أي مكان في العالم وقضّ حياتك هناك ودع الناس يعيشون ولا تعرض بلدك للاحتلال الاجنبي، لكنه اصرّ وعرّض البلد الى الاحتلال ثم ألقي القبض عليه و أهين كما أهينت اسرته ثم قتل. ويبدو ان الحاكم ما لم ير الموت بأم عينيه لن يقنع بنصيحة ولا بفكرة ولا بمنهج.
كل ذلك نتاج ابتعاد بلادنا الاسلامية عن الثقافة القرآنية القائمة على التسامح والسلام والمحبة والتعاون. ولنا في الكلمة المضيئة لامير المؤمنين صلوات الله عليه خير درس وعبرة حيث يقول: (الناس صنفان اما اخ لك في الدين واما نظير لك في الخلق). هنا درس في التسامح والخلق الانسان العظيم، وهو عليه السلام على خطى الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، عندما عاتب بلال بعد تلك الغزوة الظافرة وقال له: لماذا مررت بالاسارى على قتلاهم في ارض المعركة، فقال له: يارسول الله... هؤلاء كفار! قال له النبي الاكرم: لكنهم بشر. ثم قال له: ما أقسى قلبك...!! وفي مكان آخر استوقف اسامة وسأله محتجاً على قتله احد المشركين خلال المعركة: لماذا قتلته وقد قال: (اشهد ان لا اله الا الله)، قال: انه قالها بطرف لسانه! فقال النبي الاكرم: وهلّا شققت قلبه...؟!! بمعنى؛ هل تعلم ما يضمره قلبه.
هذا هو المنطق الاسلامي. وهو منطق القرآن الكريم، وهو منطق التسامح والسلام. بحيث يأمرنا ربنا تعالى بان نعامل أسرى الحرب كاخوان اذا أسلموا وأدوا الفرائض. وفي معركة أحد كانت اشد المصائب تأثيرا على قلب النبي الاكرم استشهاد عمّه حمزة سيد الشهداء والتمثيل به بتلك الطريقة البشعة والمعروفة في التاريخ، وقد مرت قبل ايام ذكرى استشهاده، لكن قاتل عمّه وهو عبد أسود جاء ووقف أمام النبي الاكرم وقال أريد ان أسلم، فسأله النبي: من أنت: قال: انا قاتل عمّك حمزة، فاطرق الرسول قليلاً ثم قبل اسلامه لكنه اشترط عليه ان يعيش بعيداً عنه ولا يريه وجهه، وقال: لا أريد رؤيتك فاتذكر عمّي حمزة.
المصالح تتحول الى دين!
في الوقت الذي تحتاج فيه بلادنا الى القيم الالهية والى ذلك الدين والنهج المضيء، نجد أن البعض يجعل من أهوائه ومصالحه ديناً جديداً له، هنالك من يجلس على كرسي الحكم وآخر لديه جماعة يكفر الاخرين ويسقطهم من الدين وحتى من الانسانية...!! وما حادثة (النخيب) إلا مثال بارز على هذه العقلية والنفسية المريضة.
من هنا يجب علينا العودة الى الاصل وهو الاسلام، لا أن تميل الثقافة الى عنصر القوة كما جاء في (الدارونية) ولا أن تميل الى عنصر الجنس كما جاء (الفرويدية)، ولا ان تميل الى (الدروكهامية) التي تقول ان المجتمع هو الاله... هذه الثقافات المادية الخاطئة هي التي تؤدي بالانسان الى الضلال، بينما الاسلام يقول للانسان: انت بشر لك حقوق، لكن الحيوان ايضاً له حقوق، فلا يحق لك أن تؤذيه، جاء في الحديث النبوي الشريف: (وان امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي اطعمتها ولا هي تركتها حتى تأكل من حشاشة الارض دخلت النار).
يا من تتحزبون في هذه الدنيا لانفسكم وتتركون الناس وتعتقدون انكم تعبدون الله...! جددوا النظر في ثقافتكم، لان امامكم حسابا عسيراً، بل كلنا نقف يوم القيامة امام الله تعالى: "وقفوهم انهم مسؤولون". انها ثقافة المسؤولية والحقوق والواجبات. ان بلادنا الاسلامية بحاجة الى هكذا ثقافة. في مصر وسوريا والبحرين وكل مكان، وإن لم نعد الى هذه الثقافة سنضيّع بلادنا في أمواج الثورات. ومن ثم نستطيع ان نطرح هذا النموذج الراقي والسامي للحياة، وهو نموذج المحبة والسماحة والتعاون على العالم. وبالحقيقة فان عودتنا الى الاسلام هي عودة البشرية الى الاسلام، وهذا لن يكون بالكلمات الرنانة، انما بالتطبيق العملي لقيم المحبة والتعاون والايثار. وبذلك نتمكن من تحقيق السلام في العالم أجمع.
|
|