أخلاقيات المثقف وآثارها على جودة العمل الثقافي
|
* الشيخ فيصل العوامي
العمل الثقافي والاجتماعي إما أن يكون مستقيماً أو لا يكون، إذ العبرة ليس في ذات العمل، وإنما في حُسنه، فما الحاجة إلى كثرة العمل إذا لم يؤد إلا إلى مضاعفة سلبيات المجتمع وتأزيم قضاياه. إن كثيراً من الأعمال والمشاريع الاجتماعية والثقافية، تصل في بعض الأحيان إلى مستوى من السلبية، بحيث لو يستفتى المجتمع في بقائها وعدمه لا يختار غير العدم، وذلك لما لها من دور في إضافة أزمات وعقد داخل المجتمع.
لذا فإن أي دعوة للمشاركة في العمل الثقافي والاجتماعي، لابد أن تضع في حسابها مثل هذه المستلزمات، ومنها الدعوة لمشاركة المثقف. فالساحة الثقافية والاجتماعية لا شك أنها متعطشة لرؤية المثقف متفاعلاً في أوساطها، لكن لا يعني أي تفاعل حتى وإن افتقد إلى شروطه الأخلاقية، لأن انعدامه آنئذ خير من وجوده، وإنما التفاعل الذي يرافقه كل ما يستلزم من أخلاق وآداب، حتى تكون بلسماً يشفي جراحات المجتمع ويرفع عنه كوامن الصدأ والترسبات السلبية.
فما هي أخلاقيات المثقف ؟
إن لهذه الأخلاقيات وجهتين، فهي تارة تكون عامة، وأعني بها أخلاقيات أو شروط العمل الاجتماعي والثقافي الموضوعية، وتارة تكون خاصة، وهي عبارة عن السلوكيات التي يحسن بالمثقف التحلي بها أثناء ممارسته لعمله، فأما العامة، فأهما ثلاثة أمور:
أولاً: وضوح المنهج والتوجه.
من أين يريد أن ينطلق المثقف في مشروعه؟ ولماذا...؟ وإلى أين يريد أن يصل؟ وما هي أدواته العملية ومسلماته الأولية؟ هذه التساؤلات هي التي تأتلف لتكون منهجاً للعمل. ولذا لابد من وضوحها حتى تكون مشاركته علمية، وتبتعد عن الضبابية.
ففي بعض الأحيان يكون للمثقف أو غيره مشروعاً اجتماعياً أو ثقافياً، لكنه معتّم وضبابي، بسبب عدم الوضوح في مبادئه، أو لأنه جاء كرد فعل سلبي سريع على بعض المؤاخذات الاجتماعية. وهذا فعلاً ما يلحظ أثناء قراءة تجارب بعض المشاريع السياسية أو الإصلاحية التي كان لها صوت في مناطقها. حيث تجد أنها تصل إلى منطقة عملية وتتوقف أو تنتهي، أو تقع في حيرة لا تعرف هل تتقدم أم تتراجع، والسبب في ذلك عدم وضوح المنهج والمنطلقات. إذ لو كان المنهج مبوباً و واضحاً، فإن كل ما يحدث من منعطفات في الساحة وتحولات لا يمكن أن تؤثر سلباً على المشروع بأن يتوقف أو يتلكأ.
وأعتقد أن كل ما يحتاجه المثقف من مستلزمات كي يتمكن من طرح منهج واضح، متوفر وبكثافة. و دليل ذلك التجارب العملية التي تشهدها الساحة اليوم، مما يمكن المثقف أن يستقي منها عبراً ويستفيد من نجاحاتها وفشلها في تكوين مشروعه المستقبلي.
ثانياً: التحول إلى المؤسساتية.
إن من أشد ما يؤخذ على المثقف في عمله، نزوعه المستمر نحو الفردية، أما لكثرة إشكالاته حيث أنه لا يرضى عن شيء ولا حتى عن نفسه، فيبقى لوحده ويدور حول نفسه، أو لتوقف طموحه عند حد النقد للموجود فقط، أما أن يتحرك هو لتشكيل بديل مناسب وهو غير وارد. أو لأمور أخرى غير ذلك لا تعنينا في هذه العجالة. لكن الفردية منهج غير مجد في عالم اليوم، الذي يمتلئ بالأعمال الفردية التي من سماتها النقد المستمر والممل مع صمت عن البدائل، فالساحة الثقافية والاجتماعية اليوم ليست بحاجة لمن يتخصص في النقد المطلق، إنما هي بحاجة إلى مشاريع حيّة وبدائل واقعية.
من هنا أجد ان على المثقف - ولكي يكون أكثر عملية – ان يتحول من أسلوب العمل الفردي الذي يتوقف عند حدود النقد، إلى أسلوب العمل المؤسساتي الجمعي الذي يجعل المثقف في زحمة العمل والإنتاج، وبالتالي الإيجابية وليس السلبية. وأعني بهذا التحول نحو المؤسساتية، الاندماج ضمن مشاريع جمعية اجتماعية أو ثقافية تحمل أهدافاً واضحة. بحيث يفرغ المثقف طاقاته من خلال تلك المشروعات الجمعية في سبيل تحقيق الأهداف المشتركة. وذلك لا شك يعود بالنفع الكبير على المثقف نفسه حيث يجد لكفاءته إطاراً يستوعبه وينشطه، فتتحول كفاءاته إلى مشاريع ترفع من شأنه وتحل مشاكله ومشاكل المجتمع ايضاً.
ثالثاً: التكيف مع سائر الوجودات.
لا يصح من المثقف أن يقول أما أن أعمل بمنهجي وفكري أو لا أعمل! لا لعدم صحته كمنهج فقط، وإنما لأنه مستحيل التحقق، لأن كل إنسان في الساحة العملية يمكن أن يقول ذلك. فلأن هذا المنهج غير صحيح، إذاً لابد من التوافق والتلاقي مع سائر المشروعات القائمة في المحيط الذي يعمل فيه المثقف. ولا أقصد بذلك التوافق المطلق معها، بأن يقبل بكل رؤاها ومناهجها، وإنما التوافق النسبي الذي يسمح له بأن يتحفظ على كل ذلك، لكن بحيث لا يقوده تحفظه ذاك إلى تشنيج الأجواء وخلق العداوات وقطع الصلات. وإنما يخص بذلك المثقف، لأنه يتمتع بوعي ونضج يساعده على اتخاذ مثل هذه المواقف الإيجابية، والتشجيع عليها، وبالتالي الحد من التشنجات التي عادة ما تكون وليدة الأجواء المتخلفة القليلة الوعي.
هذه بعض الخلقيات العامة المتصلة بشروط العمل الثقافي الاجتماعي، وأما الخلقيات الخاصة، فيمكن تركيزها في أمور:
1- فك العزلة الشخصية والتعايش مع المجتمع بتواضع تام وكسر القطيعة المتعمدة معها. وفي مقدمتها المناسبات البهيجة كاحتفالات الأعراس او التكريم او استقبال مسافر وغيرها، وكذلك المناسبات الحزينة مثل مجالس التأبين وغيرها، لأن ذلك نوع من المواساة، وتعبر عن الآداب الاجتماعية، والمثقف بصفته داعياً ونموذجاً طيباً في داخل المجتمع يجب ان يكون أول مَن يراعي مثل هذه الآداب، بل من المفروض أن لا يُنبه إليها أساساً لأنها من المسلمات.
وحتى نكون أكثر صراحة نقول إن المثقف في مثل هذه الخلقية، يحتاج إلى رفع حاجز التكبر والاستصغار من قدر الغير، لأن هذا الحاجز هي الخلفية وراء ابتعاده عن مثل هذه المحافل. والمثقف حقيقة ينبغي أن لا يبتلى بمثل هذه الصفات المذمومة. فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (ما دخل قلب امرء شيء من الكبر إلا نقص من عقله ما دخله من ذلك، قل ذلك أو كثر). وقال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: (لا يتكبر إلا وضيع خامل).
2- هدوء المزاج في التعاطي مع إشكاليات المجتمع. فلا يخفى أن المجتمع لا تنقصه الأخطاء والاشتباهات، لكن مع ذلك هو يحتاج إلى قلب كبير يستوعبه ولا يتعجل على إصلاحه، بل ولا يضخم إشكالاته ونواقصه. تماماً كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث أصبح قلباً مستوعباً لكل إشكالات مجتمعه، حتى مدحه البارئ عزّوجل في الآية الكريمة: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (سورة القلم /4).
3- احترام فكر الغير. وذلك حتى وإن لم يستسغ له، فإن عليه أن يتعامل معه باحترام، كما يريد أن يُتعامل معه. فكل فكرة تنتشر في الأجواء الاجتماعية، أو كل عقيدة، إذا لم تتجاوز الحدود العقلية، ينبغي أن تقابل بالاحترام والتقدير. ويقال ذلك للمثقف مع أنه متقدم خطوات عن غيره في هذا الشأن، لأنه متجاوز لمشكلة التكفير، وهي نقطة تحسب له، إذ قلما نجد مثقفاً تصدر منه كلمة أو موقف ينم عن هذه المشكلة الخطيرة. لكنه في بعض الأحيان يبتلى بداء الاستخفاف، فينظر إلى أن فرداً ما لا يفهم وآخر سطحي وثالث كذا وكذا....! وهذا لا شك ضرب من ضروب العجب والغرور، الذي يفترض من إنسان واع ومتفتح كالمثقف أن يتجنبه ويتخلص منه. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (مَن قال: أنا عالم فهو جاهل).
|
|