قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
قبس من نورها في أيامها الحزينة..
بيت الزهراء (عليها السلام).. منهج تربوي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إيمان عبد الأمير
إن قضية التربية تُعد من المفاصل المهمة في حياة سيدتنا ومولاتنا الصديقة الزهراء (سلام الله عليها)، واذا شحّ علينا التاريخ المدوّن بأقلام السلاطين والملوك، بتفاصيل عن هذا الجانب الأساس في حياة هذه السيدة العظيمة والهبة السماوية لنا، فنحن بالمقابل نسعى لاستقراء التاريخ والسيرة العطرة لرسول الرحمة وأهل بيته، من خلال الروايات والأحاديث التي بين أيدينا، ونستخرج ما يكون لنا وقوداً لإنارة الطريق وسط الظلام الدامس والازمات الخانقة التي نعيشها.
نعم... لقد قدمت الصديقة الزهراء (سلام الله عليها) البيت المثالي والنموذجي للبشرية جمعاء، وأنجبت الذرّية الطيبة التي لا تدانيها ذرية إنسانية أخرى في الصلاح على مدى التاريخ، إذن هي القمة فوق القمم، وهي المثل الأعلى في الخير والأصالة.
لكن قبل الشروع في عباب الموضوع وهو بحر كبير، حريٌّ بنا الالتفات الى قضية أساس، وهي إن الكتابة عن هذه السيدة العظيمة، ليس من باب الترف الثقافي والتاريخي، ولا يستجيب لتصورات البعض بأن العمل بما كانت تفعله الزهراء (عليها السلام) في بيتها، يُعد من المستحيلات، إنما هي محاولة للاقتداء بها وبسيرة حياتها، وهو أمر ممكن جداً، اذا كنّا حقاً نحبّ الزهراء وصفاتها وخصالها التي جاءت بالحقيقة الى جميع الانسانية وليس فقط لأشخاص معدودين، و هو قطعاً ما يريده الاسلام وما يطلبه منّا الله سبحانه وتعالى.
*مع زوجها
دخل علي بن أبي طالب ذات مرة الى البيت، وبعد أن أدّى التحية والسلام على بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، اتخذ له متكئاً ليستريح، ثم خاطب الزهراء (سلام الله عليها):
-هل من شيء نأكله؟
-كلا...! لا يوجد طعام في الدار...!
استغرب أمير المؤمنين من هذا الجواب، فقال:
-ولماذا لم تقولي لي في الصباح حتى آتي لك بشيء من الطعام.
-كلا يا أبا الحسن؛ لأن أبي رسول الله، أوصاني في ليلة زفافي بأن لا أطلب منك أي شيء، حيث قال: بُنية... لا تطلبي من زوجك شيئاً، فإن جاء لك بشيء فهو خير.
والقصة لها تتمة، حيث شعر الإمام بأنه أمام مسؤولية اجتماعية وأسرية، ولا علينا بالتفاصيل، لكن نضع أنفسنا أمام هذه الصورة ونرى كم تتطابق سلوكياتنا وتصرفاتنا مع هذه الصورة المتكاملة. فماالضير والمشكلة والمنقصة في المرأة اذا أحجمت عن الطلب لاسيما المتكرر منه؟ بل ماالفائدة من المطالبة المتكررة والإلحاح الذي يعود على المرأة في معظم الأحيان بالردود السلبية والعنيفة من الزوج؟
*الجار قبل الدار
معروف عن الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) عبادتها وتهجّدها، وقد كانت تصطحب أولادها إلى محراب عبادتها آناء الليل وأطراف النهار، وتعلمهم بذلك أنواع التبتل والتهجد، حيث يروي الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أن والدته الزهراء البتول قد أجلسته إلى جانب سجّادتها غارقة في التضرع إلى الله تعالى من أول الليل إلى انفجار الصبح، وهي آخذة بالدعاء لكل الناس؛ الأقرب فالأقرب من حيث الجيرة، ولكنها لم تشمل بدعوتها تلك أولادها، مما أثار ابنها الإمام الحسن (عليه السلام) فسأل عن السر وراء ذلك، فأجابته بنظرة ملؤها العطف والحنان:
-يا بني الجار ثم الدار.
*مع أبنائها
كانت الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) فضلاً عن تشجيع إبنيها الحسنين (عليهما السلام) على ملازمة مسجد جدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأداء الصلاة مع بقية المسلمين، تطلب منهما أن ينصتا الى الخطبة التي يلقيها النبي في المسجد لعامة المسلمين وهما لم يبلغا الخامسة من العمر، وتوصيهما أن يسرعا بالعودة الى البيت بعد انتهاء الخطبة، لتسمع منهما ما قال النبي، وعندما كان النبي يزور دار ابنته فاطمة ، كانت تتحدث له عن مقاطع من خطبته، فيسألها عن مصدر الخبر، فتشير الى السبطين (عليهما السلام).
هذه النشئة هي التي جعلت الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) في قمة البيان والأدب والبلاغة في عهدهما، وقد شاهد التاريخ المستوى الفريد من نوعه الذي بلغه هذان الإمامان الفذّان في العبادة والخطابة، حتى أن العبّاد والخطباء كانوا في ذلك الزمن وما تلاه يقرّون لهم بالفضل والأولوية في هذين المجالين. فمعاوية على جرأته القاسية المعهودة كان يتمنى ولو لمرة واحدة أن يتفوق على الإمام الحسن في الحديث أو يحرجه في الكلام، فكان يجمع إليه العتاة المردة، أمثال عمرو بن العاص ومروان والمغيرة وغيرهم ممّن لا تأخذهم في الباطل لومة لائم، فيبدؤون بمهاتراتهم الكلامية محاولين إيقاع الإمام الحسن المجتبى في المطبات الكلامية، إلاّ أنهم لم يكونوا ليجدوا منه سوى الحكمة والعلم والأخلاق ورباطة الجأش، حتى يقول قائلهم: لقد زُقَّ الحسنَ بن علي العلمَ زقّاً، وأن الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وهذا هو الحسين الشهيد عليه السلام نراه في واقعة الطف الدامية كالأسد الهصور في خطاباته كما هو في نزاله، حيث لم يكن بوسع فرد من أفراد جيش الأمويين الجرار الذي تكالب على قتاله، أن يدانيه في الخطاب وإلقاء الحجة والبيان، مما اضطرهم في نهاية المطاف إلى رميه بالحجارة والنبال على بعد، تحاشياً عن مواجهة هيبته عن قرب.
وها هي الزهراء أيضاً نجدها في خطبتها الفدكية الشهيرة تختص ابنتها زينب بالإصطحاب إلى مسجد أبيها لتقارع الردّة والانحراف والطمع الذي أصاب نفوس القوم بعد وفاة الرسول الأكرم؛ الأمر الذي يشير إلى وعي الزهراء (عليها السلام) للحقائق والأحداث التاريخية والمستقبلية، حيث كانت بذلك تنمّي قابليات ابنتها زينب لتحدي الطغيان والفساد الذي سيصيب الأمة الظالمة في عهد الإمام الحسين (عليه السلام).
وما أروع عقيلة الهاشميين حيث وقفت إلى جانب أخيها سيد الشهداء محامية عنه وعن أطفاله وأطفال وعوائل سائر الشهداء، فضلاً عن وقوفها إلى جنب الإمام المعصوم زين العابدين (عليه السلام) في محنته، حتى أنه وصف قلب عمته بقوله : (قلبها كزبر الحديد).
لقد سجلت صفحات التاريخ بأحرف من نور خطابات السيدة زينب (عليها السلام) في مسجد الكوفة، وهو مسجد أبيها، كما كان مسجد المدينة مسجد النبي أبي الزهراء، حيث قارعت فيه طغيان عبيد الله بن زياد، وكشفت مفاسده على مرأى ومسمع من الناس، وكذلك لا ينسى التاريخ خطاباتها الأخرى التي ألقتها في شوارع الكوفة ودمشق وفي قصر يزيد (لعنة الله عليه)، تلكم الخطب التي إن نمت عن شيء فإنما تنمّ على مستوى الوعي والحكمة والعظمة التي تحملتها زينب بنت علي لدى خوضها معترك السياسة والولاية. وهذا بطبيعة الحال لم يكن ليحدث أو ليكون لولا ما بذلته سيدة نساء العالمين فاطمة البتول (عليها السلام) من جهود جبارة في تربية أولادها الكرام البررة.
وبين هذا وذاك، لا يسعنا سوى القول بأن بداية الانطلاق في تربية الأطفال وتنشئتهم إنّما تكون منذ أن يروا نور الحياة. فالزهراء عليها السلام كانت على درجة رفيعة للغاية في امتلاكها لثقافة الأمومة التي من أول معطياتها النظر باحترام بالغ إلى الأولاد الأطفال ومن ثم التعامل مع كل فرد منهم على أنه إنسان مكتمل مؤهل لتلقي التربية والتعليم، وليس الانتظار به حتى يكمل السادسة والسابعة من عمره حتى يعلّم أو يُربّى، كما هو حادث في زمننا المعاصر. من هنا فان الأولى للبنت أن تتعلم ثقافة الحياة وثقافة الأمومة قبل أن تكون أمّاً، لا أن تُعطى الأولوية لتعلّم علوم الحياة الأخرى التي نجد أغلبها بعيدة عن محيط الأسرة.