في ذكرى استشهادها الأليم
مع الزهراء (عليها السلام) قولاً وعملاً
|
*باسم عبد الصاحب
بعد أن يسمو الشهيد الى الله سبحانه وتعالى ويلتحق بالرفيق الأعلى ينقسم الناس أزاءه الى ثلاث فرق؛ ففرقة تؤمن به وبقضيته وتعمل في سبيل إحياء أمره ، وفرقة تكفر به وبمبادئه وتعمل في سبيل إخماد ذكره وإماتة أمره، وهاتان الفرقتان إنما تمثلان الأقلية السحيقة، أما الفرقة الثالثة فهي التي ينضوي تحتها أغلب الناس؛ وهي الفئة التي كل جهدها أن تذرف الدموع على الشهيد ؛ فيما هي في واقع الأمر تصفق لأعدائه وتؤيدهم فعلاً .
هكذا كان الحال بعد رحيل الصديقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، وهي أول شهيدة بعد رحيل الرسول الأكرم بظلامتها وحسرتها وآلامها وأحزانها الى ربها. رحلت فاطمة، ولكن ماذا كان رد فعل المسلمين وأهل المدينة منهم على وجه الخصوص، تجاه هذا الخطب الفجيع الذي يحمل في طياته معالم الردّة والانقلاب على الأعقاب ؟
لقد انقسم الناس حيال هذا الحدث الجلل الى ثلاثة أقسام: فقسم منهم بكى على سيدته الجليلة قاطعاً على نفسه عهداً باتباع سيرتها والاستضاءة بنورها، وكان من هذا القسم رجال كسلمان المحمدي وأبي ذر والمقداد وعمار وابن التيّهان وعدد آخر. وقسم بقي على بغضه لها وحبّه لعدوّها، وهؤلاء كانوا أعداداً بسيطـة كالمغيرة بن شعبه الذي ضرب السيدة الزهراء بيده الخبيثة في أحد أزقّة المدينـة وبقي على بغضه حتى آخر لحظة من حياته البغيضة المليئة بالأحقاد علـى مبادئ الإسلام. أما القسم الثالث، فكان يمثل الأغلبية من أهل المدينة، فقـد بكوا الصديقة الزهراء وتعاطفوا معها قلباً، ولكنهم في الوقت ذاته خالفوهـا ومبادئها عملاً وصفّقوا لأعدائها و وقفوا مع الذين قتلوها واستباحوا حقوقهـا .
إن الأزمة التاريخية الحقيقية في حياة المسلمين هي هذه الازدواجية في السلوك ؛ وهي الأزمة التي رفضها القرآن الكريم رفضاً قاطعاً، عاداً ظهور بوادرها أول ظهور الانقلاب والردة والانحراف، فهنالك الكثير ممن يظهرون الحزن والجزع على أهل البيت (عليهم السلام)، لكن هذا الحال قد لايدوم عند البعض عندما تصل القضية الى مصالحهم المادية ، أو الموقف القاطع والحاسم مع الظالمين والمنحرفين. فنراه يحيد عن أهل البيت وهو يسوق الأعذار والمبررات، فان كان هو مقتنع بها ويحاول أن يطليها على المجتمع، لكنها لن تنطلي على أهل البيت عندما يقف أمامهم يوم القيامة وساعة الحساب.
والأئمة (عليهم السلام) كانوا قد شخصوا ذلك من قبل ، حتى أنهم وضعوا نصوص الزيارات الشريفة لسيد الشهداء التي جاء فيها : (اللهم العن أول ظالم ظلم حقّ محمد وآل محمد وآخر تابع لـه على ذلك... اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين وشايعت وبايعت وتابعت على قتله). ونقـرأ في زيارة (وارث)، وهي من الزيارات المعتبرة فنقول : (بأبي أنت وأمي يا أبا عبدالله ، بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ، لقد عظمت الرزّية وجلت وعظمت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل السماوات والأرض ، فلعن الله أمة أسرجت وألجمت وتهيّأت لقتالك ...).
فأولئك الذين ظلموا آل الرسول وأولئك الذين خالفوا الرسول في أهل بيته قد ماتوا، ولكنهم أورثوا حقدهم وظلمهم وبغضهم لأبنائهم وتابعيهـم، ولذلك نجد الكثير من هم في خط يزيد بن معاوية، وليس أدلّ على هؤلاء، المجاميع الضالة التي ازدلفت الى ارض المقدسات بعد سقوط النظام الديكتاتوري، وأعلنت الجهاد ليس ضد الظلم والطغيان، إنما على أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فقتلوا وذبحوا وأحرقوا، لذا فان السكوت على هؤلاء أو تبرير أفعالهم أو حمى إلقاء اللوم على الضحايا، يُعد مشاركة في الجريمة ومتابعة ومشايعة لمسيرة أولئك الذين قتلوا الإمام الحسين (عليه السلام).
إن المشكلة ليست في تلك الأقلية التي تبغض أهل البيت عليهم السلام قلباً وقالباً ، فهذه الأقلية كالكفرة الذين يعلنون كفرهم، ومن ثم فإن من الممكن أخذ الحيطة والحذر منهم، ولم تكن المشكلة في يوم من الأيام في الأقلية التي تعلن ولاءها لأهل البيت وتقلدهم في كل صغيرة وكبيرة، ولو أدى ذلك الى خوض المصاعب والمحن كما أثبت التاريخ. فهذه الأقلية تحتل قمّة الإيمان، وهي قلب الدين النابض، لكن المشكلة في هذه الأكثرية المصابة بمرض الازدواجية، حيث تؤمن بأهل البيت كأئمة حق وتعمل ضد ما يأمرون به وينهون عنه.
وقد صدق الفرزدق حينما صادفه الإمام الحسين (عليه السلام) في الطريق بين العراق والحجاز، حيث وصف واقع أهل الكوفة بقوله للإمام: يا ابن رسول الله؛ قلوب القوم معك وسيوفهم عليك!
وبداعي التفاوت في روايات استشهاد الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ونحن نعيش عدة أيام هذه الذكرى الأليمة، فان السؤال المطروح الآن هو: أين نحن من سيرة سيدة نساء العالمين التي نعدّها المعيار والقدوة، لاسيما وأننا نطلب شفاعتها ونؤكد أننا من شيعتها ؟ فهل نحن كذلك فعلاً ؟ وكيف نكون معها ولا نكون في الجبهة المعادية لها ؟
الجواب يبدو واضحاً وجليّاً للغاية، وبإمكاننا معرفته بواسطة مقارنة سلوكنا بأفعالها ومواقفها أولاً، وبمقارنة أقوالنا بأقوالها. والأمر ليس مستعصياً أن يتعرف كلّ واحد منّا على فعل الزهراء، حتى يقيس نفسه بها. فمن المستحيل أن تتبع أمة من الأمم نهج فاطمة الزهراء وموازينها ثم تكون أمة متخلفة. فأمة تتبع الزهراء لايمكن أن تستضعف أو أن تُذل. لأن ليس في معايير الزهراء وأهل البيت (عليهم السلام) التخلف والحرمان والتبعية.
ونحن اليوم نعيش الى حدٍ كبير حالة الازدواجية، حيث هاجس الـخوف والرعب من أن تتخطفنا الأمم من حولنا، ومع ذلك ندّعي اتبـاع الزهراء ومحبتها. فهذا هو التناقض بعينه،.
إن أبرز ما خلدته الزهراء من سيرة فاضلة مجاهدة هو أنها لم تعش لنفسها أو تفكر في نفسها كإنسانة وكصدّيقة، بل عاشت لنهج الإسلام الأصيل؛ دين أبيها محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن نماذج هذه الحقيقة أنها حينما عادت من المسجد لاحتجاجها على مصادرة الحق من قبل الخليفة الأول، وجدت أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) جالساً في زاوية من زوايا البيت وقد احتضن ركبتيه حزيناً متفكراً بشأن هذه الأمة التي خالفت رسولها فور وفاته، بالرغم من أن الرسول كان قد أخبره بكل شيء سيحدث بعده، فاشتكت الزهراء لزوجها أمير المؤمنين ظلامتها محرّضة إياه على الأخذ بحقها لاسيما وهو بطل الابطال وصاحب ذو الفقار وفاتح خيبر، وبينا هما على ذلك، رُفع الأذان من مسجد رسول الله، وقال المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله)، فألتفت إليها أمير المؤمنين وقال: هل تريدين أن يبقى إسم أبيك على المآذن...؟! قالت بلى ، فقال: إذن، احتسبي الله ، فقالت: حسبي الله ونعم الوكيل، بمعنى أنها عرفت من خلال أمير المؤمنين أن استرداد الحقّ ثمنه ضياع الدين باكمله، عندما يشهر علي بن أبي طالب السيف بوجه الغاصبين لتندلع أول حرب أهلية بين المسلمين وتكون نهاية الحضارة الاسلامية آنذاك، وحينها يدخل السرور والفرح في قلوب الصليبيين والكفار وأعداء الدين، لذا أمسكت عن الكلام واقتدت بإمامها .
وإذ تبين لنا أن مصلحة الدين هي الأساس في سلوك الزهراء (عليها السلام)، لنعد الى أنفسنا وننظر إلى مستوى وجود هذا الأساس والمعيار في سلوكنا ، فهل خالفنا مصالحنا الشخصية من أجل مصلحة الدين؟ وهل خالفنا منافعنا لصالح قضية دينية ؟
إن شعائر العزاء وإحياء ذكرى الصديقة الزهراء (عليها السلام) من الأمور المحببة والمؤكدة، بل إن ذلك يُعد من المواساة لها ولرسول الله وأهل البيت (عليهم السلام)، لكن الصحيح كذلك، هو العبرة والاقتداء بالسيرة العطرة لهذه السيدة العظيمة ، لأن نقتصر بالذكر على المجالس ضمن جدران أربعة، وبانتهائها مساءً ينتهي كل شيء.
|
|