الوحدة الموضوعية في القصيدة العربية بين اتجاهين
|
منذر الخفاجي
في استعراضنا لأحكام النقاد قديما وحديثا حول الوحدة الموضوعية في القصيدة العربية نجد التفاوت الكبير في اطلاق هذه الأحكام والآراء التي انطلقت وفق رؤية الناقد للقصيدة ومدى تفاعله مع تياري التجديد والموروث، وقد ارتكز كلا الفريقين على قواعد ومقررات دعموا بها آراءهم حتى أضحت هذه القضية جدلية من أعرق الجدليات في الأدب العربي. ولعل نظرة سريعة الى بعض هذه الآراء لكبار النقاد من الفريقين قديما وحديثا تكشف لنا مدى قربها وبعدها من الصواب. فالفريق الأول ذهب الى اتهام الشعر العربي منذ العصر الجاهلي الى مطالع القرن العشرين بانعدام الوحدة الموضوعية فيه واستدلوا بذلك على ان القصيدة في يد الشاعر متعددة الأغراض والأفكار وهو يجمع شتيتا من الصور المتناقضة التي لا تجمعها رابطة فالشاعر يبدأ بالنسيب الذي يتصل بوصف الناقة بعد ذلك او بوصف الصحراء او الظعن المرتحل ثم يتخلص الى غرضه من مدح او هجاء او فخر او رثاء دون مقدمات فهو إذن يجمع أغراض الشعر العربي التي حددها الأقدمون في قصيدة واحدة لا تربطها وحدة موضوعية فالانتقال من بيت الى آخر لا يعتمد على رابط منطقي او نفسي فكأن القصيدة معرض لألوان من الأفكار والأحاسيس والصور ومن هنا شاع بين النقاد ان البيت الشعري في القصيدة العربية وحدة مستقلة عما قبلها وما بعدها ولذلك قالوا مثلا: هذا أفخر بيت او أمدح بيت او أشجع بيت قالته العرب كما إنهم انصرف اهتمامهم الى الجملة والجملتين والى البيت والبيتين ولم يجدوا حاجة الى تتبع الصور في العمل الفني كله وقد ساروا على هذه الطريقة يمسكون البيت مفاضلين بينه وبين بيت آخر يتناول نفس الفكرة وكان النقد حتى أبان ازدهاره في العصر العباسي لا يتناول القصيدة كعمل فني منسجم له وحدة تجمع بين أجزائه على حدة وقد التفت بعض النقاد في ذلك الوقت لهذا الشيء كالحاتمي الذي يقول: (مثل القصيدة مثل الانسان في اتصال بعض اعضائه ببعض فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة) فهو يدعو الى الوحدة الكاملة في القصيدة والانسجام في اجزائها كما تنسجم الاعضاء والجوارح في جسم الانسان وقد تبنى هذا الرأي ايضا من النقاد القدماء ابن رشيق ومن الشعراء الذين وقفوا مع هذا الاتجاه ابو نؤاس وان كانت دعوته لم تترك أثرا يعتد به أمام الشعراء الكبار من أصحاب الاتجاه المعاكس فكان يسخر منهم بقوله:
ايها الباكي على رسم درس
واقفا ما ضرّ لو كان جلس
أما من النقاد المحدثين ممن تبنى هذا الرأي فنكتفي بالاشارة الى المصادر خشية الاطالة لأنهم اسهبوا في نقدهم للاتجاه الموروث منهم محمد غنيمي هلال في كتابه: (المدخل الى النقد الأدبي الحديث) ص 455 وما بعدها ومحمد مصطفى في كتابه: (دراسات في الشعر والمسرح) ص1 وما بعدها وغيرهما أما الفريق الثاني الذي دافع عن الاتجاه الكلاسيكي في القصيدة العربية فيمكن ان نعد أبرزهم من القدامى ابن قتيبة الذي يقول: (ان مقصد القصائد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فشكا وبكى وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً في ذكر أهلها الظاعنين عنها اذا كات نازلة العمد في الحلول والطعن على خلاف ما عليه نازلة المدر لانتجاعهم الكلأ وانتقالهم من ماء الى ماء وتتبعهم مساقط الغيث ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا من شدة الشوق وألم الوجد والفراق ليميل نحوه القلوب ويصرف اليه الوجوه.. ثم قال: فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام) نفهم من خلال هذا القول ان الوحدة الفنية في القصيدة هي الوحدة العاطفية وهيمنة الإحساس الواحد والرؤية النفسية الواحدة والصور الشعرية ذات الاغراض المتدرجة بكل أشكالها المجازية هي وسيلة الشاعر لتجسيد هذا الاحساس وقد سماها طه حسين في حديث الاربعاء ج1 ص30 (بالوحدة المعنوية) فقال: (انها وحدة متقنة متمة إتماما لاشك فيه ولا غبار عليه.. ثم قال: ان اجزاء القصيدة جاءت ملتئمة الاجزاء قد نسّقت أحسن تنسيق وأجمله وأشده ملائمة للموسيقى.. ثم عزا الدكتور طه حسين الخلل والتفكك والانقطاع في بعض القصائد الى قصور ذاكرة الرواة وما أحدثت من الاضاعة والخلط والاضطراب) فأقسام القصيدة رغم تنوّع أغراضها توحي بأن الشاعر يسير في خط واضح محدد فالقراءة المتأنية للقصيدة تكشف لنا عن وحدة مؤكدة في هذا التشكيل الشعري الذي وصفه طه حسين بأنه: (بناء محكم لا تستطيع ان تقدم فيه او تؤخر او تضع بيتاً دون ان تفسد القصيدة نشوة جمالها ودون ان تفسد البناء كله وتنقضه نقضا) فالانتقال في القصيدة من بيت الى بيت انتقال طبيعي يتناسق مع الجو الشعوري العام للقصيدة بحيث تبدو القصيدة وكأنها تشكل بناء كلياً تحقق من اكتمال عناصر الترابط البنائي فيها يقول الدكتور يحيى الجبوري في (خصائص الشعر الجاهلي ص148: (وفيها ـ اي القصيدة ـ نجد التجارب الشعورية الكاملة والصورة الصادقة للحياة الجاهلية واصداء أمنية لخفقات قلب الشاعر وترجمانا لعواطفه وأحاسيسه ذلك لانها قصائد أصيلة لم تصدر عن صناعة او تكلّف وتتمثل في هذه القصائد وحدة الموضوع والتجربة الشعورية الصادقة على ما فيها من سرعة وإيجاز) وقد سار هذا النهج الذي اختطه الجاهليون في العصور المتعاقبة وقد جرى مجرى امرئ القيس جرير والمتبني ثم سار على خطهم الزهاوي والشبيبي والرصافي. يتضح فيما بيناه الرأي الأقرب الى الصواب في تحديد الوحدة العضوية او الفنية للقصيدة العربية فالقصيدة العربية بناء فني متكامل وتركيبة خاصة تنصهر فيها مجموعة العناصر المكونة فهي ليست شكلا عاديا ولكنها شكل له مواصفاته الخاصة التي تختلف عن مواصفات الشكل الذي تبنى به كل قصيدة أخرى.
|
|