الأمة الناجحة والبحث عن عناصر القوة
|
*عبد الخالق محمد علي
طالما بحث المفكرون والمثقفون في عوامل موت وحياة الأمم ليشقوا طريق التقدم والرقيّ والنجاة من الواقع الفاسد، فما هي عوامل حياة الأمم؟
بدايةً نوضح مفهوم الحياة التي وهبها الله سبحانه وتعالى للكائنات، لنعرف العلائم والدلالات على الأمة الحية.
لو أخذنا بذرة صغيرة، ودسسناها في التراب، ثم تابعنا تطوراتها سنجد انها سرعان ما تبدأ بالتحرك لتجمع من حولها ما يفيدها في عملية النمو وتتجنب مالا ينفعها. فتمتص من الماء قدراً محدوداً، ومن املاح الارض كذلك، ومن اشعة الشمس مقداراً مناسباً، وهكذا حتى تستوي شجرة باسقة، وافرة الظلال، يانعة الثمار.
ومثل الحياة كمثل هذه البذرة، فحينما تدبّ الحياة في الأمة تدرك هذه الأمة انها يجب ان تنمو في اطار تطلعاتها المستقبلية لكي تصبح قوية مقتدرة. فمن طبيعة الأمم المقدامة التي تتطلع دوما الى التقدم والحضارة، انها تهدف في الاساس الى النمو المستمر، والانتشار الواسع. وهي حينما تضع هذا الهدف نصب عينيها، فانها تبدأ عادة بالبحث عما ينفعها لتستثمره وعما يضرها لتتجنبه.
وعلى سبيل المثال فانها تتوجه الى التاريخ لتأخذ منه ما يفيدها، وتترك ما يضرها. ففي التاريخ ايجابيات وسلبيات؛ ففيه سيرة الانبياء والصالحين، كما ان فيه ايضاً صور الطغاة المجرمين من امثال فرعون وهامان ونمرود وغيرهم ممن قتلوا النماذج الخيرة، وعاثوا في الارض الفساد.
ان نظرة واقعية وموضوعية للتاريخ تمكننا من ان نميز بين الجوانب السلبية فيه وبين الجوانب الايجابية. فنحن نتعمق مثلاً في التاريخ لنفتش عن لحظة من اللحظات المشرقة فيه، كلحظة عاشوراء - مثلاً - فنقف عندها طويلاً، متأملين فصولها بدقة. فنلاحظ في دائرة عاشوراء كلمات وشعارات قد اطلقت من جانب معسكر الامام الحسين (عليه السلام) وأخرى من جانب معسكر يزيد. إلاّ أن كلمات معدودة ظلت تدوّي في عالمنا، وتسري في عروق الاجيال؛ مثل كلمة (هيهات منّا الذلة) التي أطلقها الامام ابو عبد الله الحسين (عليه السلام).
ولاشك فان الكلمات التي ترسم منهاج البناء والحضارة هي التي تبقى، والامة الحية هي التي تبحث عن هذه الكلمات والمواقف والمناهج التي تمثل الجوانب الايجابية من التاريخ، والتي تسهم في صناعة الحضارة. وفي مقابل ذلك نرى الأمة التي تعيش الهزيمة والانتكاس تبحث دوماً عن الجوانب السلبية من التاريخ، ولذلك نرى انها لاتنفصل عن واقعها المر.
وفضلاً عن ذلك فان الأمة الحية في حالة بحث دائم عن الجوانب الايجابية في أية حضارة، لتطور هذه الجوانب في ذاتها، من أجل بلوغ أعلى مرتبة في التقدم والازدهار. هذا في حين اننا نرى الأمة المنهزمة داخلياً تقتبس من الحضارات الأخرى الجوانب الهامشية العديمة الجدوى.
لكن في هذا الاطار راح البعض ينبهر بكل ما يصدر عن الرجل الاجنبي دون ان يعي ويميز بين الضار والنافع منه، حتى وصل الأمر بالبعض الى انه يصغي لأية كلمـة منقولة عن الغربيين وكأنهــا الوحـي، بينما لا يعير أي اهتمام يذكر لقول يذكر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو عن الأئمة الطاهريـن (عليهم السلام)، فهؤلاء انبهروا بالظاهر، ولم يعوا المحتوى بالشكل المطلوب، ولذلك فانهم سيظلون يعيشون الخواء. في حين ان الأمة الحية تبحث دائماً عن المحتوى، والحكمة، وقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها)، وكذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (... والحكمة ضالة المؤمن فليطلبها ولو في أيدي أهل الشر)
لقد جاب المسلمون الاوائل الآفاق بحثاً عن آخر التطورات العلمية في الجانب الايجابي، وكان لذلك اثر بليغ في بناء حضارتهم التليدة. فلا يخفى ان قوة الحضارة الاسلامية انما جاءت في أحد فصولها نتيجة لاستيعابها سائر الحضارات والاستفادة منها. والحضارة الاوربية هي الأخرى عمدت الى الانتفاع من الحضارات الأخرى، وخصوصاً الحضارة الاسلامية من خلال جمع أكبر قدر ممكن من تراثها الثقافي والفكري والعلمي وفي المجالات كافة. وجاء في كتاب (لنكن خير أمة) لسماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي (حفظه الله) ان في المكتبات الغربية المعروفة ما يقرب من الفي كتاب ورسالة منسوبة الى جابر بن حيان الكوفي والتي كانت من إملاء الامام الصادق (عليه السلام)، علماً ان مكتبات العالم الاسلامي لا تملك من هذه المجموعة النفيسة سوى مائة كتاب؛ وكل ذلك يكشف لنا عن حقيقة، ان الحضارة الغربية قامت على اساس ايجابيات الحضارات الأخرى.
ومن كل ذلك نستنتج ان تقدم الأمم ورقيها نابعان من تتبعها لقضايا العالم المحيط بها من منظار ايجابي، ولذلك ينبغي علينا إذا ما اردنا ان نسمو في سماء الحضارة ان نكافح الجوانب السلبية في حياتنا، وان نأخذ بكل الجوانب الايجابية من حولنا، وان نبادر الى الابداع.
ولتحقيق ذلك علينا أن نواجه التقليد الاعمى الذي يقف على رأس الجوانب السلبية التي يجدر بنا ان نتخلص منها، إذا أصبح البعض يتهرب من كل ابداع بحجة ان مسيرته قائمة على تقليد الآخرين في كل شيء. فهناك - مثلاً - من يقلد التراث، في حين اننا لابد ان نعرف ان في التراث ايجابيات وسلبيات. لذلك ينبغي ان لا تكون علاقتنا بالتراث في حدود التقديس، وانما بحدود الاهتمام بالقضايا الايجابية. فعلينا ان نأخذ من الآخرين الأمور التي تفيدنا في بناء كياننا الحضاري، دون ان نقلدهم في نظرياتهم وسلوكياتهم بلا أدنى تفحص وادراك.
فقد ثبتت في العالم فشل بعض النظريات المعروفة، إلاّ أننا نجد البعض ما يزال مصراً على السير وفق منهجها بحجة انها اثبتت نجاحها سابقاً، او انها ما زالت تعيش في اجواء دعاية النجاح. وان مما يؤسف له هو ان اكثر خبراءنا ماهم إلاّ مجموعة من المقلدين، ذلك لاننا لم نسع الى بناء الحضارة، ولم نقم بحركة ذاتية داخلية تقودنا نحو التقدم، وانما اعتمدنا على كل ماهو جاهز. فكانت النتيجة ان تحولت عقليتنا الى عقلية انبهار اما بالاولين، واما بالآخرين ممن يعاصروننا.
ونحن لانستطيع ان نتجاوز هذه المشكلة إلاّ من خلال تجاوز الاطر الضيقة التي حكمنا على انفسنا بالعيش في داخلها، الى الانطلاق والابداع.
وثمة التفاتة مهمة هنا تجدر الاشارة اليها، وهي ان الابداع شيء، والبدعة شيء آخر. فالبدعة تعني تغيير الدين والقيم الثابتة، اما الابداع فيعني التطوير. فمن أجل تطبيق القوانين فاننا بحاجة الى تطور وفهم عقلي. والقرآن الكريم يحثنا على الأخذ بالأحسن من الأمور عندما يأمرنا قائلاً: "فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" (الزمر/ 17- 18).
|
|