قراءة في آيات من سورة الجن
الجن يهتدون بالقرآن الكريم
|
*توفيق عبد الله
إن التخرصات بوجود قوى خاصة وخفية قاهرة تؤثر في مجريات الحياة، لهي من الأفكار التي لا تكاد تخلو منها الثقافات البدائية، وهي عامل رئيس في الشرك بالله، فالذي يعبد شجرة فإنما لظنه بأن فيها حلولا من عالم الغيب، والذي يعبد الحجر لا يعبده بذاته وإنما يعبد الروح التي يزعم انها تحوم حوله.
والجن من بين تلك الأرواح التي أثير ولا يزال حولها الكثير من الجدل، إلى حد الخرافة والخيال المبالغ. فقد زعم البعض انها أرواح خلقت ذاتيا من غير خالق، وقال آخرون انها تقوم بدور الخير والشر في الحياة، وعلى هذا الأساس ارتأوا ضرورة إرضائها فأشركوا بها.
وقد أفرز الوحي الإلهي الخرافة عن الواقع، فبين الحق ونسف الثقافات الباطلة حول الجن، وقد كشف في سورة قرآنية كاملة سماها ربنا سبحانه وتعالى بإسمهم (الجن) عن جوانب من حضارتهم اعتمادا على علم الله سبحانه المحيط بكل شيء، وليس على الظنون والتخرصات، قال الله تعالى: "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً" (الجن/ 1)
ولا ريب ان علاج القرآن لموضوع الجن ليس ترفا فكريا يهدف إعطاءنا مجرد رؤية عن خلق غريب، بل هو علاج لمشكلة حقيقية موجودة في ثقافات الناس، ومنعكسة على واقع بعضهم بصورة خطيرة، حيث الخرافات والأساطير، وحيث الشرك بالله العظيم.
ومع ان القرآن كله موحى به من عند الله إلى رسوله، الا ان مطلع هذه السورة المباركة يؤكد بأن الحديث عن الجن ليس حديثا من الرسول عن تجربة شخصية حدثت له، ولا كسائر كلام الناس عن الجن الذي لا يتأسس الا على الخيال والظنون، بل هو حديث لعالم الغيب والشهادة أطلع عليه رسوله عبر الوحي الذي لا ريب فيه.
فالجن كما الأنس لديهم ثقافات، وبينهم دعاة للضلال وهم يضلونهم دائما عن الحق. غير انهم حينما استمعوا للقرآن وأنصتوا، بدا لهم الفرق واضحا بين رسالة الله التي تحمل العلم والهدى، وبين الثقافات الشائعة عندهم والتي لا تنطوي الا على الجهل والضلال. ولعل هذه المفارقة من أهم عوامل الإعجاب بالقرآن، إذ استمعوا له، ولقد إنبهر النفر من الجن بإعجاز القرآن وعظمة آياته، إنبهارا قادهم إلى التسليم له، وإكتشاف ماهم فيه من الضلال والباطل بنور آياته البينات.
وهكذا يُجلي الإستماع والتدبر عظمة القرآن لقارئه، وانه يتجاوز الحروف والكلمات إلى المعاني المعجزة، كما تجاوز إليها أولئك الجن، وإعجاب الجن بمعجزة القرآن يشبه إلى حد بعيد إعجاب السحرة بمعجزات النبي موسى عليه السلام، ومن ثم إيمانهم به ونبذهم للسحر.
وحري بالإنسان ان يبحث عما حملهم على ذلك من القرآن، وان يعجب إذا عجب به وليس بهم، وهم يقولون كما جاء في الآية الكريمة: "َيهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً" أي يعرف بالحق، ويرسم للإنسان المنهج السليم الذي يوصله إليه. وان القرآن ليعلمنا الحق وينمي فينا العقل والضمير وسائر حوافز الخير، مما يدفعنا إلى تطبيق الحق بالصورة الأكمل، وهذا ما دفع النفر من الجن إلى الإيمان بالقرآن ونبذ كل الأفكار الأخرى الضالة.
ويؤكد القرآن الكريم على وجود التشابه بين المجتمع البشري ومجتمع الجن من الناحيتين: الفردية والإجتماعية. فهم خلق مكلفون عاقلون مختارون، ومحدودة علومهم كما نحن، ولذلك يقعون في الأخطاء المقاربة لأخطائنا كالشرك. وهذا يهدينا إلى خطأ الاعتقاد بإطلاعهم على كل شيء، والإعتماد على ما يقولون، إذ قد يقولون شططا.
هذا من الناحية الفردية، وإما من الناحية الإجتماعية فهم يتشابهون معنا في كونهم فرقا مختلفين، وطبقات مستضعفة ومستكبرة، بل ويعيشون في ظل أنظمة إجتماعية وسياسية متشابهة، حيث يترأسهم سفهاء منهم، كما يتزعم المجتمعات البشرية الطغاة والجبابرة، وقالوا: "وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً"، والسفيه في اللغة هو الجاهل الذي لا يحسن رأيا ولا تصرفا، ويبدو ان كلمة السفيه جامعة لمساوى الصفات والأخلاق، وإصطلاحا، فالمعنى الذي يريده الجن من الكلمة هو كل زعامة سياسية أو إجتماعية أو علمية شطّت بها الأفكار نحو الباطل، وسعت في تضليل المجتمع كالحكام والطغاة وعلماء السوء.
وما أكثر ما يقوله سفهاؤنا نحن البشر على رب العالمين، من على منابرهم، وفي وسائلهم التضليلية، في كل زمان ومكان!
فما أحوجنا ان نكون كأولئك النفر من مؤمني الجن؛ نستمع القرآن، ونؤمن بما يهدي إليه من الرشد، ونرفض الشرك بالله بجميع ألوانه وصوره، وننتفض على سفهائنا تحت راية التوحيد وعلى هدى الوحي.
|
|