الانسان و البحث عن نور العلـم
|
*أنور عزّ الدين
العلم في البصيرة القرآنية هو نور إلهي يقوم بدور الوسيط بين النفس البشرية وبين الموجودات، إذ الموجودات ليست مضيئة ونورانية بذاتها، والانسان كأحد الموجودات ليس نورا بذاته ايضاً. فلو كان كذلك، لكان يعلم كل شيء وفي كل وقت، ولما غاب عنه شيء في اي وقت؛ والاشياء لو كانت نورا بذاتها لكانت هي الأخرى معروفة للانسان في كل وقت، وانما هي مظلمة بذاتها والانسان جاهل بذاته، فيأتي نور الله جل وعلا الذي يقذفه في قلب من يشاء من عباده، ويكشف للانسان الحقائق كشفا مباشرا شهودياً حضورياً. وبتعبير آخر يمكننا القول ان من خصائص العلم وميزاته أنه يكشف الاشياء بصورة مباشرة دونما واسطة، إذ به يستطيع الانسان ان يكتشف الاشياء ويشاهدها.
من هنا يتبين لنا ان العلم ليس صورة للأشياء في ذهن الانسان كي يتساءل هل ان هذه الصورة مطابقة لتلك الاشياء أم مخالفة لها ؟ نعم التصور موجود لدى الانسان، فهو يمكنه ان يتصور شيئا ما، او يتوهم او يتخيل شيئا ما، لكن هذا التصور والتوهم ليس هو العلم بذلك الشيء. فالانسان يمكنه مثلا ان يتخيل بحراً من الزئبق يمخر فيه قارب من فضة يقوده إنسان من ياقوت؛ اوحتى يمكنه ان يرسم هذه الصورة على لوحة أو ينشدها شعرا او انشودة او مسرحية، ولكن هذا الظن ليس علماً بل هو الظن فحسب، والظن لا يغني عن الحق شيئاً.
وكما يمكن للانسان ان يتصور الاشياء، كذلك يمكنه ان يصدق بالاشياء، فالتصور بسيط، والتصديق إنما هو الحكم على أمرين فبأمكان الانسان ان يزعم انه إله – مثلاً- وانه الرب الأعلى...! كما زعم فرعون ونمرود، لكن هذا التصديق ليس هو العلم لانه ليس مطابقا للواقع الخارجي. فالعلم هو أن تكشف الحقائق والأشياء كشفاً ظاهراً وحاضراً. فحين يعرف الانسان ان الوقت الآن مثلا ليل، فذاك ليس تصورا في ذهنه ولا هو تصديق عنده، وانما هو كشف وظهور وحضور للشيء عنده.
هذه النظرية وإن اعترف بها الكثير من الفلاسفة القدماء والجدد مثل (ديكارت) الفيلسوف والرياضي الفرنسي ( 1596-1650م)، إلاّ أنها قبل ذلك تُعد من البصائر الاسلامية التي ما استكملت وما تبلورت إلاّ بالقرآن الحكيم وأحاديث النبي واهل بيته عليهم الصلاة والسلام. فآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الاكرم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام هي التي ذكّرتنا بحقيقة ان العلم نور يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلب من يشاء من عباده، يقول تعالى: "عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ". (العلق/5) وانه جلت قدرته "خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ". (الرحمن/3-4) وانه تعالى قال: "ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً". (الكهف /65 (وقال: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ". (يوسف /76) وانه يدعو عباده لطلب المزيد من العلم منه "وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" (طه/114 (وانه عز وجل هو الذي وهب العلم بالقدر الذي يشاء "وَمَآ اُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الاسراء/85). فلو تدبّرنا لفظة "اُوتِيتُم" في الآية الشريفة و وقفنا على معناها، نجد ان العلم ليس شيئاً من الانسـان، بل هو مضاف إليـه، موهوب له من قبل الله تعالى. ففي اللغة؛ (أتاه، آتاه، يؤتيه وأوتي الشيء، أي اعطي له) وهذا يعني ان الله سبحانه هو الذي أعطى العلم، لكن حكمته شاءت ان يعطى الانسان قليلا من العلم، وشاءت ايضاً ان يسلب من الانسان تلك العطية متى أراد الله العزيز العليم.
وهنا يظهر سؤال ؛ هل يستطيع الانسان ان يزعم بعد هذا انه بمرور الزمن يزداد علماً فيصبح أعلم فاعلم ؟ لعل ذلك تصور خاطيء ايضاً؛ اذ الانسان يفقد علمه حين ينام وحين ينسى وحين يغضب، والله سبحانه وتعالى يقول: "وَمَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ". (يس/68) فارادة الله سبحانه ان يفقد الانسان علمه، وهذا هو امر وجداني يرتبط بفطرة الانسان ووجدانه ولاتستوعبه الاقوال والامثلة، بل موضع استيعابه هو العودة الى الفطرة الانسانية. فالانسان حينما يعلم شيئا كان يجهله من قبل، لابد له ان يسأل نفسه عن كيفية علمه به، وان يستنطق وجدانه عن ماهية هذا النور الذي كشف له عن المجهول.
من خصائص العلم
ألا يمكن ان يعلم العلم بالعلم ؟ سؤال ربما يتبادر الى ذهن البعض. وذلك لاننا اسلفنا ان العلم منزّه عن الاحاطة، لانه هو الذي يضيء وهو الذي يكشف، فهل يمكن ان يكون الكاشف هو المكشوف عنه؟ أجل. يُعلم العلم بالعلم، وبتعبير آخر إن العلم يكشف نفسه.
قال ديكارت: ( انا افكر فانا موجود ). يعني انا اعلم فانا موجود، بل ومعناه انا اعلم بعلمي وجودي. وذلك شيء صحيح منه، اذ الانسان لو لم يكن لديه علم، لم يستطع ان يعلم وجوده. فهو لايستطيع ان يعلم وجوده حال النوم، كما لايستطيع ان يثق بوجوده حال النسيان والجهل والجنون، لكنه حين يفكر يثق بأنه موجود. وبتعبير آخر: الانسان يعلم. ولانه يعلم فهو يثق بعلمه، فحيث تسأله : من قال انت موجود؟ يجيبك انا اقول انا موجود. وحين تسأله: ومن أين تعلم ذلك؟ يجيبك: ما دمت أنا أفكر وأنا أعلم، فأنا موجود.
من هنا يتضح لنا ان العلم يكشف الاشياء ويكشف صحة تلك الاشياء، لان من خصائصه ان يجعل الانسان يثق به دون شك ولا ريب. ولذا فالانسان حينما يعلم، لايمكن ان يشكك نفسه بالعلم، والذي ينبغي ان يشار إليه أن الانسان إنما يزداد بعداً عن العلم حينما يحاول ان يعرّف العلم بالمفاهيم والالفاظ وان يصفه بالاوصاف، إذ العلم حين يكشف نفسه ليس ذلك بالتصورات والمفاهيم، بل يكشف نفسه بنفسه فحسب وليس بشيء آخر. وذلك مثله مثل من يحمل مصباحا في نهار مشمس ليلقي بضيائه على الشمس ليكشفها دون ان يدرك ان الشمس تكشف نفسها بنفسها.
ثم إن العلم يرى العلم، بل العلم يكشف العلم ولكن عبر آياته. فالانسان لا يتوقع ان ترى يدُه عينَه، ولا أذنُه او لسانُه يمكن أن يرى عينه، بل العين يمكنها ان ترى العين ولكن عبر المرآة. فهو حين يقول لم اكن عالما فعلمت او يقول كنت جاهلا فأعطاني الله تعالى العلم شيئاً فشيئاً فتعلمت، إنما يصل الى العلم بالعلم. فالعلم اذاً يكشف نفسه ويتعمق في ذاته ويغور فيها فينكشف بذاته لذاته، وهذه الحقيقة من خصائص العلم، وكل تعريف غير هذا للعلم يبعدنا اكثر فأكثر عن العلم نفسه.
العلم من آيات الله :
ان العلم آية من آيات الله، واسم من أسمائه، وخلق من خلق الله مملوك لله سبحانه وتعالى، يعطيه متى شاء بقدر ما يشاء لمن يشاء. والانسان لا يمكنه معرفة العلم والاحاطة به، بل وحتى لا يمكنه توهم العلم او وصفه إلا ان يشاء الله سبحانه، فانه بطريقة أولى لايستطع ان يحيط علما بالله رب العلم وخالقه. وقد يتساءل المرء: وهل يمكننا ان نعتقد بشيء لانراه ولا نحيط به علماً؟
لكننا في معرض الاجابة عن هذا التساؤل نقول: إن خصائص العلم هي التي تكشف عن ذات العلم، إذ الانسان حين يعتقد انه عاقل او عالم مثلا، إنما يعترف ويذعن بوجود العقل، والعلم من آياته ومن دلائله، فتراه يتساءل: إذا لم أكن عاقلاً فسوف أقوم بحركات غريبة ملفتة للأنتباه خارجة عن المعقول، وإن لم اكن عالما فكيف اهتدي؟ وكيف أعرف طريقي ؟ وكيف... وكيف...؟
اذن فآيات العلم وخصائصه وصفاته تكشف فقط عن ذات العلم بينما تعجز عن أن تكشف كنهه، وكذا آيات الله تعالى انما توضح وتكشف للانسان وجوده جل وعلا دون ان يعرف الانسان كنه خالقه او ان يحيط بذات الله الخبير العليم، بل الانسان بما لديه من العلم الموهوب عاجز عن الاحاطة بمخلوقات الله الملك القدوس، فكيف له الاحاطة بذات الله عز وجل البعيد عن مدى تفكر الانسان، والخارج عن دائرة تفكره؟ فكل ما يتوهمه الانسان ليس بإله، لأن الله سبحانه وتعالى مقدس عن الاحاطة. ونحن لا نعلم الله وانما نعلم بالله، لان علمنا لا يحيط به لانه سبحانه سبوح قدوس منزه عن الاحاطة، ومنزه عن التوهم.
العلاقة بين العقل والقرآن:
وحين يكشف العلم ذاته ويكشف العقل ذاته ثم يتدبر ذو العلم وذو العقل في آيات القرآن الحكيم ويستقرئ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام، يقف الانسان على حقيقة ان ذلك النور الذي وهبه الله للانسان هو نفسه موجود في القرآن الكريم وفي كلام النبي و الأئمة عليهم السلام، وهذا انما يعني في الواقع ان هناك تطابقا بين نور العلم ونور العقل لدى الانسان، من جهة وبين ما هو موجود في القرآن الحكيم وماهو موجود في كلام النبي والائمة عليهم السلام من جهة أخرى.
ولا ريب ان كل انسان لديه حجة في نفسه، وهذه الحجة الواقعية حين تطابق الحجة الخارجية تكون دليلا مقنعا للانسان، دافعا لشكوكه وارتيابه في أية مسألة كانت. ومن هنا يمكننا ان نقول ان تلك العلاقة الجذرية المباشرة بين عقل الانسان وبين القرآن إنما هي اكبر حجة واوضح دليل على ان القرآن الكريم من لدن حكيم عليم؛ من الله سبحانه وتعالى، لتطابق الحجة الواقعية المتمثلة بنور العلم الموهـوب من الله سبحانه وتـعالى مع الحجة الخارجية المتمثلة بالقرآن الحكيم.
هذه الحقيقة تكاد تتجلى لدى الكثيرين حينما يقرؤون القرآن فتراهم لايستطيعون الاستمرار في القراءة، بل وحتى يغشى على البعض منهم حين يتحسس وحدة نور القرآن الحكيم ونور العلم والعقل الذي وهبه الله أيّاه. ذلك لأن نور القرآن حين يسطع في أعماقه تتفجر نفسه لعظمته، ويشع في ضميره وقلبه، فيتجلى الله تعالى بعظمته وكبريائه من خلال نور القرآن. "لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ". (الحشر/21)
فالقرآن الحكيم يضرب الامثال ويأتي بما يذكِّر الانسان وبما ينفتح به عقله، فيكتشف العقل نفسه وبالتالي يكتشف الانسان أنه يملك نورا في نفسه. ولعلنا نجد ذلك فيما يزيد على ثلاثمئة موقع في القرآن الكريم "أفلا تذكرون.. أفلا تبصرون.. لعلكم تعقلون.. وما يعقلها إلاّ العالمون..." هكذا يخاطب الخالق مخلوقه العاقل ليشع النور في ضميره فيزداد نورا وضياء، وبالتالي تتفتح له آفاق الحياة ويوقن الانسان حينها بتلك البصيرة التي وهبها الله تعالى له بأن هذا القرآن الحكيم من لدن حكيم عليم، فهو من الله سبحانه وتعالى. وهكذا يتحدث القرآن مع الانسان فيثير فيه ذلك العقل المدفون تحت ركام الشهوات والأهواء والغفلة وحب الدنيا والخلود الى الارض، فيجعله نورا، ويغدو الانسان آنئذ صاحب عقل، و صاحب نور يشع من اعماق ضميره ومن دواخل نفسه وقلبه.
|
|