قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

التبعية الثقافية .. الاسباب والمعالجة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
في فترة من الزمن تصورت الشعوب العربية والاسلامية أنها تخلصت من (التبعية للاجنبي). هذه الوصمة السيئة الصيت التي لازمتها طوال عقود بل قرون من الاستعمار والاستغلال. فقد حصلت على استقلالها، فبات لها علمٌ وحدود وعملة وغيرها من مكونات الدولة المستقلة المعترف بها دولياً. لكن ما غفلت عنه هذه الشعوب أن هذا النوع من التبعية لم يكن كل شيء في معركة البقاء بين بلادنا والبلاد المستعمِرة – بكسر الميم- فقد انسحبت القوات البريطانية والفرنسية وأخذت معها الاعلام وملفات الدوائر والموظفين، كما تحاول ان تعيد هذه التجربة الولايات المتحدة في العراق وافغانستان، لكنها أبقت الثقافة بكل ما تضم من سلوك وافكار وقناعات. ولذلك يُقال ان التبعية الثقافية أخطر بكثير من التعبية السياسية والإقتصادية، لأن النوعين الاخيرين يأتيان من الخارج، ويمكن التعامل معهما ومعالجتهما، أما التبعية الثقافية فهي تنشأ في داخل النفوس وتنمو وتتجذر، وحيئنذ يكون العلاج صعبا وعسيرا ويستغرق أمداً بعيداً.
تجربتان ناجحتان للتبعية الثقافية
فكرت الامبراطورية العظمى كيف تبقي ظلها فوق بلدين في غاية الاهمية والاستراتيجية وهما ايران والعراق؟ لقد آلمتها الهزيمة النكراء في ايران في قضية التبغ، وفي العراق في ثورة العشرين، وهي الامبراطورية التي لم تدع حينها أنها (لا تغيب عنها الشمس)، لكنها غابت فجأة في هذين البلدين، والسبب الأهم وراء ذلك، كما يؤكد رجالات بريطانيا في مذكراتهم هو وجود التلاحم بين علماء الدين والمجتمع، او بين مراجع الدين وبين التجار والسوق، ففي ايران عملت بريطانيا وبمساعدة حاكمها الوفي والمطيع (رضا شاه) على محاربة الحجاب بشكل سافر وقمعي والتشجيع على السفور واقتناء الالبسة الفاضحة من الاسواق، بينما شجع الرجال على لبس القبعة الغربية حتى للمزارعين في الارياف بحجة أنهم يعرضون رؤوسهم لحرارة الشمس خلال العمل في الحقل! علماً ان لديهم انواعاً من القبعات الصغيرة المحلية الصنع ولم يكونوا بلهاء كما تصور (الشاه) الذي نصبه البريطانيون ملكاً على الشعب الايراني. أما ابنه (الشاه محمد رضا) الذي أطيح به عام 1979، فقد لجأ الى خطة جديدة أقل خشونة واكثر لباقة بعد ان واجه ردود الفعل العنيفة من لدن علماء الدين وشرائح المجتمع على مسألة الحجاب، فاعلن خطة لتفريس اللغة الفارسية بالكامل، واخراج كل المفردات العربية منها، علماً ان اللغة العربية كان لها حضور فاعل في الثقافة الايرانية، إن لم يكن في المحادثة، لكنها في المكاتبات والمراسلات وحتى في عنونة المحال التجارية واسماء الدوائر والمؤسسات. فأقام التماثيل الرخامية لعدد من الشعراء المتعصبين للفارسية ومزارات مهيبة وضخمة ليجعلها نقاط جذب للذهنية الايرانية بدلاً من المراقد المقدسة في ايران او التوجه الى القرآن الكريم او نهج البلاغة.
أما في العراق فالظروف الاجتماعية والخلفية التاريخية والحضارية تختلف عما هو موجود في إيران، لأن في هذا البلد حدثت ثورة مسلحة سقطت فيها العشرات من الجنود والضباط البريطانيين، ولم تشأ بريطانيا ولا عملاءها إشعال جذوة الثورة في نفوس العراقيين بالتحرش بالقيم الدينية والاخلاقية، لذا كانت الفكرة ثقافية – تربوية. تقول (المس بيل) - وهي الشخصية البريطانية المعروفة في ايام الانتداب- في مذكراتها أننا ومن اجل فصل المجتمع عن علماء الدين ومراجع التقليد، علينا بانشاء المدارس الحديثة، لتكون بديلاً عن المدارس الدينية التي كانت تنتشر في المدن العراقية المقدسة وعدد من المدن الاخرى، بحجة مكافحة الامية، لكن هذه المكافحة وتعليم القراءة والكتابة كان بثمن باهض على الشعب العراقي، اذ ان الطالب لن يتعلم القراءة والكتابة وحسب، انما سيكون خلال اثنتي عشرة سنة متواصلة تحت رحمة منهج ثقافي – تربوي لا صلة له بالقيم الدينية والحضارة الاسلامية، وعندما يدخل الى الجامعة للحصول على شهادة جامعية في الاقتصاد او السياسة او الهندسة او القانون وغيرها، فانه سيعزي الفضل في كفاءته العملية الى الغرب، وبشكل لا ارادي سيحترم كل ما يمت الى الغرب بصلة حتى وان كان مناقضاً ومتعارضاً مع التعاليم والقيم الاسلامية.
يقول المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في مذكراته: كان خلال العهد الملكي وزيراً للمعارف – التربية حالياً- يقال له خليل كنّه، وهو شخصية ثقافية معروفة في العراق وقد عهدت اليه الوزارة في خمس دورات متعاقبة، ذات مرة ذهبنا إليه – يروي المرجع الشيرازي الراحل-فرحب بنا وبدأنا الحديث معه بهذا النحو: قال النبي (صلى الله عليه وآله): (صنفان من أمتي إذا صَلُحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي: الأمراء والعلماء)، وأنت أمير من الأمراء...! فقال: نعم أنا من الامراء، وأكثرهم غير صالحين....! وأضاف: ماذا تريدون؟ قلنا: نريد أن نتحدث معك حول مناهج التعليم. فقال: تفضلوا. قلنا: إن المناهج الموجودة الآن لا تُدرس الدين، ان في الدين صلاة وصيام ولكنه لا ينحصر فيهما فقط. فقال ماذا تريدون مثلاً ؟ قلنا: ان الجانب السياسي في الإسلام مُهمل تماما وكذلك الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي في الإسلام مُهملان ايضا، كذلك نظرة الدين إلى الكون والحياة مُهملة تماما، كذلك الرؤية الكلية للاسلام مهملة، وقد فصّلت له في ذلك.
يضيف المرجع الراحل: فضحك الرجل وقال أنا وزير المعارف لكني لا أعرف من هذه الأشياء أي شيء...!
صحيح ان بلادنا الاسلامية ومنها العراق فيها الاطباء والمهندسون والعلماء في القانون والاقتصاد وغيرها، لكن السؤال المهم هو: هل تمكنت اجيال العلماء والاخصائيين من المشاركة في بناء البلد ورفع مستوى الانسان من الحرمان والتخلف الى مستوى الشعوب المتقدمة والسعيدة؟ إن اهم سمة لبعض اهل العلم او الاكاديميين في مجتمعاتنا اليوم – ولا نقول كلهم- هي انفصالهم شبه التام عن المجتمع، لان المجتمع بعد مرور قرن واكثر من الزمان على وجود التعليم، ما يزال بعيداً عن العلم والثقافة والمعرفة، بينما طالب المدرسة والجامعة يجد نفسه فوق الاخرين لانه يخوض غمار العلم الذي لن يخدم سوى شخصه هو من الناحية المادية والمعنوية.
ما هو البديل؟
نحن لا نخشى الآخرين سواء كانوا يحملون ثقافات او افكاراً ونظريات وغير ذلك، لان معنا نظاماً متكاملاً للحياة، لكننا بحاجة الى بديل جاهز على ارض الواقع، ليحل محل النماذج المتسوردة والمستهلكة. هنالك ثلاث خطوات من جملة خطوات عديدة نشير اليها على سبيل الاختصار:
الخطوة الاولى: إنشاء المدارس والمعاهد الخاصة
لتكن للحكومة مدارسها وجامعاتها، وليكن للناس مدارسهم ايضاً التي تربي ابناءهم على قيم الدين والاخلاق وتعرفهم بتاريخهم وحضارتهم المجيدة. و رب قائل بصعوبة الامر من الناحية المادية، لكن اذا لاحظنا فوائدها، نجد ان المجتمع مستعد لأن يتعامل مع هكذا تجربة بشكل يعيد لاصحاب المشروع ارباحا جيدة. هذه المدارس والمعاهد تجعل ابناءنا ذوي جذور متصلة بالاعماق، لا ان يكون حالهم في المدارس الحكومية كمن يعيش ضمن سجن – في بعض الحالات- يدخل مكفهّر الوجه يتوقع التهديد والوعيد من بعض المعلمين، لكنه يخرج فرحاً منطلقاً من المدرسة. فكيف يتسنّى لهكذا طالب في هكذا حال، ان يحمل ما يتعلمه من المدرسة الى المجتمع ويشارك في بناء مجتمعه وبلده؟
لقد جرت تجارب من هذا القبيل في كربلاء المقدسة في سني الستينات تحت اسم (مدرسة الامام الصادق –ع-)، لكنها واجهت التحديات السياسية والثقافية في آن، حتى أجهضت لكنها خرجت عدداً لا بأس به من الخطباء والكتاب والمثقفين، وفي الكويت جرت تجربة أخرى في سني السبعينات تحت اسم (مدرسة الرسول الاعظم)، وهي تجارب متواضعة بحاجة الى إثراء وديمومة لتكون رديفة للمدارس والمعاهد الحكومية، من حيث المناهج والنظام الاداري، حتى تكون المصدر الذي يخرج العلماء في مجال التاريخ والاقتصاد والاجتماع واللغة العربية والقانون الى جانب علوم القرآن الكريم. والاهم من ذلك انها تتميز عن الحوزات العلمية التي تعني بالعلوم الدينية وتخرج علماء الدين من مراجع تقليد وخطباء ومجتهدين.
الخطوة الثانية: البدائل العلمية
اذا كانت لدينا مآخذ على بعض العلوم الحديثة التي تدرس في الجامعات مثل علم الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والقانون وعلم النفس الاجتماعي وغيره، بل حتى الفلسفة، فهذا يعني اننا امام استحقاق ثقافي وحضاري، فإذا كان مصدر تلكم العلوم حضارة الغرب والنظريات التي وضعها علماء الغرب، ونجد فيها الاخطاء والانحرافات، علينا ان نستقي من الثقلين: (القرآن الكريم والعترة) علومنا التي نحتاجها في حياتنا، فندرس التاريخ والاقتصاد والاجتماع والقانون حسب القواعد التي وضعها لنا الله تعالى والتي لا يمكن ان تتعارض بالمرة مع مصلحة الانسان وفطرته، بعكس ما نرى اليوم من مآلات مأساوية لهذه العلوم في واقع الحياة، حيث التناقضات والتقاطعات بين هذه العلوم وبين مصالح الانسان وحقوقه وما يطمح اليه، حتى تقف هذه العلوم احياناً عاجزة عن الاجابة على اسئلة الناس واستفهاماتهم.
وهذه هي مهمة علماء الدين بأن يشجعوا على التخصص في العلوم المختلفة، وهذا هو منهج الإمام الصادق عليه السلام، فعندما كان يأتيه من الصف الآخر ويريد المحاججة والقدح والتشكيك، فانه يوكله الى الحقل الذي أتى منه، فاذا جاء من (علم الكلام) ارسله الى هشام بن الحكم، واذا اراد الفقه ارسله الى زرارة، وهكذا سائر العلوم والاختصاصات. واليوم لابد لنا من علماء في الاقتصاد وعلم النفس والاجتماع والسياسة والتاريخ والقانون ليجيبوا على كل الاستفهامات والغوامض في النظام الاسلامي.
الخطوة الثالثة: الأدب .. الوسيلة
لقد أشكل البعض في سالف الزمان على الشريف الرضي (رحمة الله عليه) أنه لماذا سمّى الكتاب الذي يضم خطب وكلام أمير المؤمنين عليه السلام بـ (نهج البلاغة) ؟ فهم يقولون: هذا ليس نهج البلاغة بل هذا نهج الحياة، لكن هذا الإشكال مردود من الناحية الفنية، اذ ان نظرية الادب كما يعرفها أحد العلماء بانها تحمل من الجمال الشيء الكثير، لذا فضّل الشريف الرضي نقل الحقائق عبر الأدب، بمعنى انه اختار بلاغة الخطب والكلام والوصايا، وأختار القمم منها وليس كل كلمة فيها، لأن الأئمة صلوات الله عليهم كانوا أحياناً يكلمون الناس وفق درجة استيعابهم، لذلك فإن الشريف الرضي جمع الروائع والقمم من الناحية التعبيرية في هذا الكتاب، وإلا فان كتب الحديث تزخر باحاديث وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام، إلا ان (نهج البلاغة) أعطى زخماً ودفعاً هائلاً لتلكم الاحاديث الشريفة، ولذا نجده ربما يكون الكتاب الثاني في العالم الشيعي بعد القرآن الكريم من حيث الإقبال والتأثير والحفظ، واكثر من هذا نقرأ عن شعراء وأدباء كبار لم يستثنوا (نهج البلاغة) من قائمة مطالعاتهم الأساسية في بواكير مسيرتهم الادبية، رغم ان الكثير منهم غير ملتزم مئة بالمئة بنهج وسيرة أمير المؤمنين عليه السلام، لكن قوة البلاغة وسحر البيان أخذ بالالباب والعقول فترك تأثيره على الامزجة والمشاعر، وهذا بحد ذاته انجازايحسب في مسيرتنا الثقافية، وهو في الوقت نفسه فنارٌ عالٍ لأهل الثقافة الاصيلة بان لايبتعدوا عن نور الحق والحقيقة في متاهات الافكار والثقافات الطارئة والدخيلة.