قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الطريق لاكتساب علم معرفة الله تعالى
*كريم الموسوي
ما يزال النقاش دائراً حول هوية المؤمن بالله واليوم الآخر، ومن هو المؤهل لحمل هذه الشارة المقدسة والعظيمة، فالجميع يدعون الايمان، لأنه بكل بساطة المظلة المعنوية التي تمنح صاحبها الاستقرار النفسي والاطمئنان على علاقاته الاجتماعية السويّة، والقرآن الكريم ينبهنا الى إن الايمان هو ما يدخل في القلب وليست هي كلمات تنطلق على اللسان، تقول الآية الكريمة: "لا تقولوا آمنّا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الايمان في قلوبكم...".
و أول خطوة نحو الايمان القلبي الراسخ والعميق هي معرفة الله سبحانه وتعالى، من هنا كان علم معرفة الله سبحانه وتعالى أشرف العلوم ؛ لان الله عز وجل هو مصدر الوجود ومنشأ الخير، وهو الذي خلق كل شيء وقدّره تقديرا، وهو المبدئ المعيد، والخالق الرازق له الاسماء الحسنى في عالم التكوين وفي عالم التشريع والثقافة وعلوم الفكر.. فان الله سبحانه وتعالى هو المحور، والايمان به يأتي قبل كل ايمان.
يقول الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام) في سياق اول خطبة وضعت في كتاب نهج البلاغة : (أول عبادة الله معرفته (1)، فقد يعبد المخلوق خالقه بفريضة الصلاة والصيام والزكاة، وقد يعبده بالجهاد والقتل في سبيله، ولكن تبقى معرفة الله اعظم من كل انواع التعبد، فعبر معرفة الله تتم الفرائض، وعبرها ايضا يقبل ما دونها. فمن صلى ولا يعرف لمن صلى، او صام ولم يعرف لمن صام، ومن جاهد وقُتل ولم يعرف في سبيل من جاهد وقُتل.. ستذهب اعماله سدى وحسرة، وقد يخسر الدنيا والآخرة، حيث سيضل سعيه هباءً منثورا.
ولكي نهيئ نقطة البدء في هذا البحث المديد، فانه من الجدير بنا ان نلتمس ذلك في احاديث الرسول وروايات اهل بيته (عليهم السلام) التي من طبيعتها ان تهب لنا الامل والرجاء في رحمة الله سبحانه وتعالى. فهي التي تفتح لنا آفاقا من العلم الاسلامي المتجسد بالعرفان والحكمة؛ ولا شك ان اهل البيت هم اول وخير من عرف الله عزّ وجلّ حق معرفته، ولذلك اجتباهم ربهم.
الجنة ثمن التوحيد:
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (والذي بعثني بالحق بشيرا ؛ لايعذب الله بالنار موحِّدا ابداً، وان اهل التوحيد ليشفعون فيشفَّعون).(2)
وقد جاء في مأثور الدعاء : (من اكثر طرق الباب اوشك ان يسمع الجواب). والمرء اذا نادى الله بغير انكسار فليستغث مرة اخرى، فلعل بينه وبين الله الف حجاب، وكلما قال الداعي : يا ألله ، كلما خرق حجاباً من هذه الحجب حتى يصل الى مصدر النور، فيجيبه الله سبحانه وهو اللطيف بعباده : لبيك وسعديك، عبدي ادعني اجبك. ولعل الدعاء الاهم الذي ينبغي ان ندعو به هو : ان يقينا الله نار جهنم، "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلْظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ" (آل عمران /191-192).
فالبعض في هذه الدنيا يطمح لان يكون الاول في كل مضمار من مضامير الحيـاة، والبعض الآخر يكتفي بالفتات من كل شيء. البعض يدعو الله لان يمنحه امرا بسيطا لا يتناسب حتى واحتياجاته الدنيوية، اما البعض الآخر فلا يكتفي بالطلب الى الله سبحانه وتعالى ان يقيه عذاب نار جهنم فحسب، بل يتطلع ويسمو الى الدرجة الاعلى ليتمنى على الله - وهو القريب المجيب - أن يقيه الخـزي في يوم القيامة، بنفس الدرجة التي يطلب فيها ان يرزقه الرضوان الالهي الذي قال القرآن الكريم عنه انه اكبر من الجنة ذاتها، و انه هو الفوز العظيم. "وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة /72).
ان ذلك كله منوط بمستوى معرفة العبد بربه بعد معرفته بنفسه كما جاء في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): (من عرف نفسه فقد عرف ربه). (3) وهذه المعرفة هي المقياس الأوفى المحدد لشخصية الانسان، وغير ذلك من المقاييس لا يعدو كونه هباءً غير ذي بال، لا سيما إذا تذكرنا ان مظاهر الوجود لا محالة آيلة الى الزوال والانعدام في يوم من الايام كان عند الله موقوتاً.
المعرفة، سبيل الرشاد
وقد روى أبوذر الغفاري رحمه الله انه قال : خرجت ليلة من الليالي فاذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمشي وحده ليس معه إنسان فظننت انه يكره ان يمشي معه أحد، فجعلت امشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟ قلت: ابوذر جعلني الله فداك. قال: يا أباذر تعال، فمشيت معه ساعة. فقال: إن المكثرين هم الآقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يديه وورائه وعمل فيه خيرا. قال : فمشيت معه ساعة، فقال : اجلس هاهنا - وأجلسني في قاع حوله حجارة - فقال لي : إجلس حتى أرجع إليك. قال : وانطلق في الحرَّة حتى لم أره وتوارى عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته عليه الصلاة والسلام وهو مقبل وهو يقول : وإن زنى وإن سرق، قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله جعلني الله فداك من تكلمه في جانب الحرة؟ فإني ما سمعت احدا يردّ عليك شيئا، قال: ذاك جبرائيل عرض لي في جانب الحرة؛ فقال: بشِّر أمتك انه من مات لا يشرك بالله عز وجل شيئا دخل الجنة، قال : قلت: ياجبرائيل وان زنى وان سرق؟ قال نعم وإن شرب الخمر. (4)
وبالرغم من ان الشيخ الصدوق - قدس الله نفسه الزكية - وغيره من العلماء الابرار كانوا قد علّقوا على هذا الخبر بان مثل هذا الانسان الذي تحدث عنه الامين جبرائيل عليه السلام لا يموت حتى يوفقه الله سبحانه وتعالى الى التوبة قبيل مماته وإن العلامة المجلسي يقول: لا ينبغي الاغترار بتلك الاخبار والاجتراء بها على المعاصي. ولكن يبدو ان الأمر بين امرين كما اشار عدة من العلماء الأخيار، اذ ان الحالة المثلى لايمان الانسان وانطلاقا من معرفته بالله ان يعيش حالة الرجاء والخوف. فهو يرجو الله ورحمته وكأنه لم يعصه قط، ويخاف الله وعقابه وكأنه لم يطعه قط.
وعلى اية حال ؛ فان الداعي الى تداول العرفان الاسلامي يكمن وراءه سببان رئيسيان :
الأول: ان امواج الثقافة الدخيلة المشوشة على طبيعة مجتمعاتنا الاسلامية وافرادنا المسلمين قد تؤثر فينا مالم نكن متحصنين بحصن التوحيد ومعرفة الله. إذ لا يجوز التقليد في العقائد ، وإنّما على كل فرد أن يمتلك المقياس القرآني الذي عبره يعرف ربه حق المعرفة. وإنما يتأتى ذلك عبر تلاوة القرآن الكريم، والتدبر في آياته. فبصائر القرآن الكريم التي نطقت بها الآيات الشريفة، وفسرها الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) والائمة الهداة من أهل بيته، هي المقياس الذي ينبغي على كل واحد منا أن يمتلكه.
الثاني : ان اشرف العلوم واوجبها هو علم الدين، وهو بدوره ذو درجات، وارفعها هو توحيد الله سبحانه وتعالى.
من هنا فان على المهتمين بأمر المعرفة الإلهية أو ما نسميه بـ (العرفان) لابد من التوجه الى دراسة العلوم الدينية، وربما يذكرنا هذا بحديث مولانا وسيدنا الامام الصادق (عليه السلام): (ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الدين)، فهذا الحرص والاهتمام الكبير من قبل الامام المعصوم يشكل رسالة واضحة وصريحة لنا بأن لا نلجأ الى الطرق الأخرى على أمل الوصول الى المعرفة الإلهية، حتى لا نضل ونخزى – والعياذ بالله- .
(1) بحار الأنوار / ج 4 / ص 253 / رواية 6.
(2) بحار الأنوار / ج 3 / ص 1 / رواية 1.
(3) بحار الأنوار / ج 2 / ص 32 / رواية 22.
(4) بحار الأنوار / ج 3 / ص 7 / رواية 17.
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------