قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

كيف تمّ تسميم الثقافة الاسلامية؟
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
هل بالامكان مواجهة الفكر الاسلامي واستبداله بفكر انساني يتخبط بين الخطأ والصواب؟
لابد لنا من هذا السؤال حتى نعرف مدى قوة هذا الفكر الذي ضحى من اجله العلماء والمثقفون بدمائهم لتكريسه في الواقع. وحتى نعرف ايضاً حقيقة الفكر البديل الذي يقف بالضد و يتربص بنا الدوائر منذ عقود وما يزال؟
لم يكن بالامكان وباي شكل من الاشكال الوقوف امام تيار الفكر الاسلامي الاصيل في العالم الاسلامي والعالم كله لسبب بسيط وهو انه يستمد علميته وحجيته من كتاب مجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلام السماء الذي يقف العالم اليوم صاغراً امامه، إذن؛ لامجال للقول بان الفكر الاسلامي فاشل او متناقض او غير عملي او اي سمة سلبية أخرى كما يتعرض لذلك مجمل الافكار الوضعية والانسانية على مر التاريخ. لذا جاءت المحاولة من الطرف المقابل بضرورة زرق الفيروسات في هذا الفكر الاصيل علّه يصاب بشيء من الامراض وتتغير ملامحه وتتشوه هويته.
ويجب ان نعترف ان هذه المحاولة نجحت الى حدٍ بعيد في غفلة من المسلمين، قادةً وقاعدة، فأمسى الفكر الاسلامي الذي يجب ان يكون نوراً لعقل الانسان يهديه الى اتخاذ الموقف المبدأي الصائب وتبني الفكرة الصحيحة التي تقوده الى السلوك القويم. نجده اليوم على مسافة بعيدة جداً عن اذهان الناس حتى بات غريباً وعصيّاً على الفهم. وهذا تمّ من خلال عملية ماكرة نفذتها أجندة الشرق و الغرب مجتمعين خلال العقود الماضية وما يزالون على حلفهم، وهي الخلط بين الفكر الاسلامي وبين تفكير المسلمين، وأوهموا المسلمين بان لهم الحق بان ينظروا ويفتوا كلٌ حسب مقدرته الذهنية، وربما يكون هذا جزءاً من (حرية التعبير والرأي)، ثم هل هناك من يمتلك عقلاً ناضجاً وآخر له عقل غير ناضج...؟!! وبهذا خرج هذا التيار الدخيل بنتيجة ان لابد من التخلص من الفكر الاسلامي الذي يتوصل اليه العلماء والمفكرون الاسلاميون، اذ ليس من حقهم ان يملوا على الناس ما يريدون – كما يروجون لذلك-.
وهنا تجدر التفاتة مهمة الى ان أجندة المواجهة الفكرية لم تستهدف الفكر الاسلامي برمته، لانه بالحقيقة عبارة عن جناحين ممتدين في العالم وليس من الحكمة والعقل مواجهة هذا الكيان الضخم وجهاً لوجه، الامر الذي دفعهم الى لعبة ذكية وهي الهجوم على جناح دون آخر، وتشغيل اقلام مأجورة للتهجم على فريق بعينه من السلمين دون غيرهم، وعندما تنطلي اللعبة على بعض الكتاب والمحسوبين على الثقافة والفكر، فانهم بذلك يساعدون القوى الاجنبية لمحو الفكر الاسلامي من قاموس الثقافة ثم القضاء على المسلمين على مراحل. وقد ساعدهم في ذلك استمرار الخلافات المذهبية بين المسلمين واثارة بعض النزاعات الجانبية في هذا البلد وذاك. وقد شهدنا نجاح هذه الخطة خلال السنوات الماضية، واسفرت العملية عن الحاق الضرر بالامة الاسلامية في اتجاهين:
1 – تمزيق صفوف المسلمين وتقويض الثقة المتبادلة التي نحن اليوم بحاجة ماسة إليها.
2 - نشر الافكار الخرافية والجاهلية بين الامة التي تؤدي الى تخلخل ثقافتهم وتحطيم صرح فكرهم المتكامل، وقديماً قالوا اذا كثر الجواب خفى الصواب.
وبعد كل هذا نستعرض مثلين من واقعنا الثقافي نعرف كيف شوهه الدخلاء.. وكيف ادى هذا التشويه الى افكار بعيدة عن روح الثقافة الاسلامية الحقة.
أولاً: بين فكرة الفداء و الشفاعة الى الله
نظرية الفداء نظرية عميقة الجذور من الناحية الفلسفية، وهي تنطوي على شرك ظاهر، وقد دخلت بدايةً في الديانة المسيحية، عندما احتوت هذه الاخيرة على الفلسفة الاغريقية، ومزجتها بالدين في محاولة لتعزيز سلطان الدين ودعم مركزه في الاوساط الثقافية.
هذه النظرية هي في اصلها ناشئة من فكرة تعدد الالهة مصبوغة بخيالات شاعرية، وهي تقول: ان هناك عدة آلهة ينافس بعضهم بعضاً في ادارة الحياة، فقد يريد احدهم الرحمة بعباده، بينما يمنعه الثاني! وهكذا ينزل احدهم ليصلح بين الناس فيأتي الثاني ويفسد ما اصلحه الاول! وحينما دخلت هذه النظرية في الديانة المسيحية تغيرت شيئا ما، فكان (الاب والابن وروح القدس) هي الالهة الثلاثة المتنافسة على ادارة الكون، والاب بما يتمتع من نفوذ وعنف يمثل جناح اليسار المتعنت، بينما يمثل الابن جناح اليمين المعتدل، وبينهما الروح القدس؛ لذلك يعتزم الاب تأديب عباده فيمنعه الابن، وهكذا يكون الابن فداء العباد والوسيلة المؤدية الى الرحمة بهم!
هذه نظرية مرفوضة عند المسلمين كافة، ذلك اننا نؤمن بإله واحد قوي مقتدر "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون". نحن نعتقد في الله سبحانه " لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا" (الانبياء /22)، وهذه النظرية لا تمت بأية صلة بنظرية الشفاعة، ذلك لان الشفاعة انما هـي دعوة مستجابة. ثم ان الله سبحانه رحيم بعباده، ورحمته وسعت كل شيء ومن موجبات رحمته انه يقبل التوبة من عباده، ويستجيب دعائهم، بل ويدعوهم الى نفسه فيقول: " وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة /186)، " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر /60)، بل واكثر من ذلك انه يستجيب دعاء شخص لغيره، و يأمر بهذا الدعاء في كتابه العزيز حيث يقول: " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً" (الاسراء /24).
فالله - اذاً - قريب ومجيب دعوة الداع في حدود المصالح الكونية العامة، ولأنه كذلك فقد يغفر ذنب شخص تكريماً لشخص آخر ورحمة به. فبسبب من دعاء الولد لوالده وتكريماً لمكانة الولد، وجزاءً له على اعماله الصالحة، قد يغفر الله للوالد ويمسح على ذنوبه يد التوبة الشاملة، وكذلك العكس عندما يدعو الأب او الأم لولدها، وقد يغفر تعالى للصديق بدعاء صديقه الذي له مكانة عند ربه، وهذه هي الشفاعة الصحيحة.
وكلما سمت مكانة الداعي، كلما زادت احتمالات الاستجابة للاغاثة، ولكن دون ان تصل هذه الاحتمالات الى 100% لان الله سبحانه اكبر من ان يبرمه الحاح الملحين، وتجبره دعوة عبد من عبيده مهما كان تقياً. ولله تعالى الكلمة الحاسمة في تقدير العباد وفي استجابة الدعاء لله وليس لاحد حتى ولو كان نبيا أن يحتم عليه شيئاً، انما له الدعاء والمسألة انه يسأل ولله ان يستجيب له او لا يستجيب بقول الله لرسوله: "سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللـه لَهُمْ" (المنافقون / 6). وهذه العظمة والمكانة الحقيقية التي يعطيها المسلمون للخالق جلّ وعلا.
أما نظرية الشفاعة في الاسلام، فانها تتلخص في ثلاث نقاط :
1 - الله واحد احد عزيز جبار.
2 - الله واسع الرحمة، ومن رحمته استجابة دعاء عباده لانفسهم او لبعضهم البعض.
3 - وهو لا يجبر على استجابة دعاء احد لاحد، مهما كانت درجة هذا الاخير وشأنه عند الله. وأين هـذه الحقيقة من نظرية الفداء الوثنية؟ أين هي من جبر الإله الصغير للإله الكبير على الرحمة بعباده؟! الفرق بينهما هو الفرق بين التوحيد الخالص والشرك البعيد.
تشويه فكرة الشفاعة
لنستمع الى بعض هؤلاء الدخلاء كيف يصوروا لنا فكرة الشفاعة حتى يتخيل الينا انها نسخة مطابقة لفكرة الفداء يقول : (والوسيلة على هذا النحو جاءت الى الجماعة الاسلامية عن طريق مدرسة الافلاطونية الحديثة فقد حددت هذه المدرسة العالم الرفيع في الوجود بثلاثة موجودات: وحي الاول والعقل والنفس الكلية).(1)
ولكن هل يمكننا ان نؤمن بأن فكرة الشفاعة او الوسيلة دخلت الامة من ناحية الفلسفة؟ بصراحة كلا، لان الشفاعة مذكورة في القرآن الكريم ذاته حين يقول الله تعالى: "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِاِِذْنِهِ" (البقرة /255). "وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى" (الأنبياء /28). "لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى" (النجم / 26). ثم هل يمكن ان يكون القرآن الكريم من موحيات الافلاطونية الحديثة وقد كان الكتاب المجيد مفهوماً في عصر ما قبل الترجمة حيث كان الكتاب والسنة المصدرين للفكر الاسلامي؟
ان نظرة الاسلام الى دور الشخص الثاني في خلاص الانسان من مغبة عمله، نظرة ايجابية وعقلية، فهي في الوقت الذي لا تنكر هذا الدور مرة واحدة لا تراه ايضاً دوراً حاسماً وحتمياً، وبذلك تجعل الانسان بين اليأس والرجاء، وهو المحور الذي ينشط الفرد لانه آنئذ يهدف تقليل احتمالات اليأس ومضاعفة اسباب الرجاء، بينما نظرية الفداء التي تبنتها المسيحية اليوم، تبعد الفرد عن المسؤولية، وتجعله يتكل على (المفتدي) وهو النبي عيسى عليه السلام ليخلص نفسه عن تبعة سيئاته.
ثانياً: الدمج بين (الصليب) وبين واقعة الطف!
لقد بلغ التطاول والتشويه من لدن اصحاب الفكر الدخيل والاقلام المأجورة ان يشبهوا قضية استشهاد الامام الحسين عليه السلام في واقعة الطف وبين نظرية (الصليب) عند المسيحيين، وربط الشعائر الحسينية بطقوس الكنيسة، بينما الفرق كبير بين هذه وتلك نابع من الفرق بين التوحيد النقي الذي يتمتع به الفكر الاسلامي، والشرك الخفي الذي ينطوي عليه الفكر المسيحي، ذلك لان المسيحية تعتقد بأن عيسى عليه السلام اشترى اللعنة الابدية بالصليب الذي اعدم به، ولذلك فان المسيحي تخلص من اللعنة والى الابد بذلك الصليب، بينما لا يعتقد المسلمون في الامام الحسين عليه السلام الا انه شهيد ضحى بنفسه من أجل الدين وأن يطبق المسلمون هذا الدين، وليس من اجل الناس وحدهم، أما اللعنة الباقية حتى اليوم فهي قائمة على الذين قتلوه وتنكروا لدينهم وقيمهم ومبادئهم. وانما يجب علينا تجديد ذكراه بالشعائر الحسينية الموجودة، لكي نعلن للناس عن ولائنا وايماننا بالله، ولمن يقتل في سبيله تعالى، فالحسين عندنا غير ملعون كما هو المسيح عند النصارى، وهو بالتالي لم يشتر اللعنة الابدية بقتله ولم ينقذ الناس من عاقبة اعمالهم باستشهاده بتلك النوعية التي يزعم النصارى ان عيسى عليه السلام قام بها، وهنا ايضا يكمن الفرق بين الفكرة الاسلامية التي تدعو الناس الى العمل والفكرة المسيحية التي تخلص الناس من مسؤولية العمل.