تجربة (الديمقراطية) والحضور الجماهيري الفاعل في الساحة السياسية
|
*إعداد / بشير عباس
كثيراً من الاحيان تحجب رؤية شجرة واحدة في غابة كبيرة رؤية الغابة كاملة، فترى الانسان ينشغل بهذه الشجرة ويترك المساحات الشاسعة والواسعة من الاراضي الخضراء. كذلك حالنا اليوم عندما ننشغل بمشكلة صغيرة وثانوية ونترك دراسة الحالة العامة التي تحيط بنا. ولعل هذا هو السبب الرئيس في ان الناس في العراق وكذلك المسؤولين وكذلك اصحاب الرأي واصحاب القلم والبصيرة والعلم والمعرفة، كل هؤلاء جميعا يقفون حيارى إزاء ما يحيط بهم، ولم يحددوا الرؤية المناسبة لاوضاعهم، فلا يخرجون من حفرة الا ويقعون في اختها. يحاربون الارهاب ويطردونه من باب لكنه يعود اليهم من باب اخرى، او بطريقة ثانية، او انهم يحاربون الفقر فاذا بالتضخم يبتلع كل مكاسبهم.
هنا ينبغي ان ندرس القضية بنظرة شمولية واسعة. لا ان نفكر في علاجات مؤقتة من قبيل المسكنات فيهدأ الالم لكن يبقى المرض والألم، واذا بالناس. ولسان حال الناس بيت الشعر:
كل من تلقاه يشكو دهره
لست ادري هذه الدنيا لمن
التطبيق الخاطئ للديمقراطية
المشكلة الحادة والاساسية التي يعيشها العراق و ربما سائر البلاد الاسلامية، اننا نخرج من حفرة الدكتاتورية والحكم الشمولي فنقع في بئر عميقة وهي بئر الديمقراطية ومشاكلها. فلا استطعنا ان نرجع الى مشيتنا ولا تعلمنا من مشية الاخرين. فيكون حالنا حال الغراب الذي اراد ان يتعلم مشية الطاووس فنسي مشيته ولم يتعلم مشية الطاووس...!
عندما نريد الاستفادة من نظرية الديمقراطية المجربة في الغرب، علينا ان نعرف ان الغرب طبق هذه النظرية ضمن سياق تاريخي تكامل مع الزمن خلال ثلاثة قرون، فتكاملت الديمقراطية في الغرب في فترات زمنية تخللتها ازمات وحروب واخطاء فادحة، حتى عرفوا كيفية تطبيق هذه النظرية على واقعهم ويستفيدوا منها لعلاج مشاكلهم. أما نحن الذين نريد اليوم وبين عشية وضحاها ان نقلد الغرب في كلما جربوه، فانه يعد أمراً غير منطقي بالمرة، وذلك لاسباب:
أولاً: في الجانب السياسي؛ هنالك اجواء ديمقراطية مهيمنة على التجربة الانتخابية في بلاد الغرب تضمن الى حدٍ ما نزاهة هذه الانتخابات، ومن هذه الانتخابات تتشكل الحكومة، وبسبب تلكم الاجواء الديمقراطية فان علاقة الشعب بحكومته المنتخبة تكون قوية الى درجة كبيرة، ولذا نجد هنالك خشية ورهبة من السياسيين من أي زلل او خطأ يفضحهم امام الناس، ومثال ذلك ما نسمعه في الاعلام من فضيحة جنسية سقط فيها رئيس صندوق النقد الدولي، وهي من اكبر المؤسسات الاقتصادية العالمية، ثم انه يعد من قيادي الحزب الاشتراكي في فرنسا وكان مرشحاً قوياً لمنصب رئيس جمهورية فرنسا، لكن كل ذلك لم يشفع له أمام القضاء والعدالة التي تحميها الديمقارطية، وبات اليوم رهين المعتقل بعد ان جُرد من مناصبه ومكانته الاجتماعية والسياسية وسقطت سمعته عالمياً، وحُشر مع المجرمين واللصوص في احدى السجون الامريكية. بهذا الشكل نجد النظام السياسي يصلح نفسه بنفسه، وهذا بفضل استقلالية القضاء و وجود منظمات المجتمع المدني.
ثانياً: الاعلام... في الغرب صحافة عريقة واعلام ذو مبادئ واهداف واضحة، فبالرغم من وجود بعض القيود من مؤسسات سياسية ومخابراتية، لكن الحقيقة تعد خطاً احمراً يخشاه الجميع في الغرب مهما كان منصبه، وهذه الحقيقة تظهر على صفحات الجرائد سابقاً واليوم على صفحات الانترنت وحتى في الكتب التي يؤلفها اعلاميون او سياسيون متنفذون. وقد شهد العالم كيف ان صحفياً واحداً تمكن من الاطاحة برئيس امريكي وسياسي مخضرم مثل ريتشارد نيكسون عام عام 1973 وكان هذا الرئيس قد حاز على ولاية ثانية في الحكم، وهو شخصية معروفة جداً محلياً ودولياً، لكن فضيحة (ووترغيت) جعلت منه شخصية منبوذة لانها كشفت حقيقته بانه مجرد جاسوس يتلصص على خصومه في الحزب الديمقراطي.
وهذا لا يعني ان الديمقراطية في الغرب خالية من الشوائب والتناقضات، ونحن لدينا العديد من الملاحظات عليها، لكن المسألة هنا اننا نريد الاقتباس من هذه الديمقراطية الغربية في وقت بلادنا تخلو من صحافة مستقلة ومهنية، إنما الموجود هو ارتباط هذه الوسيلة الاعلامية بهذا النظام او ذاك. والمثال البارز لذلك قناة (الجزيرة)، فقد استبشر الناس في العالم العربي بهذه الفضائية كونها وضعت في منهجها تغطية مختلف القضايا في العالم لاسيما العالم الاسلامي، واليوم تتابع هذه الفضائية تجد انها تغطي الاحداث في المغرب العربي من تونس حتى مصر ثم سوريا والاحداث في اليمن لكن احداثاً جمّة وعظيمة تقع بالقرب منها وفي دولة البحرين نراها تغمض عينيها وتصم اذنيها! إذن، فالهمّ ليس اعلامياً إنما سياسياً، فالبحرين جارة لقطر وهما ضمن تحالف سياسي وعسكري في (مجلس التعاون الخليجي)، ولابد من تغطية سلبيات الاخر، ولابد من مراعاة مصالح البلد الآخر حتى وان كان يمارس الجريمة والابادة الجماعية.
ثالثاً: الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني.. ففي بلادنا لاسيما العراق، ما تزال الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني حديثة العهد بالعمل السياسي المعارض للنظام الحاكم، لأن المفترض من الاحزاب او المنظمات ان تكون بحيث اذا رأت مخالفة في الحكم او انحراف تنزل الى الشارع وتترك اثرها في القرار السياسي، وربما تكون عاملاً في استقالة الحكومة او تنظيم انتخابات مبكرة او تعديل دستوري وغير ذلك. أما عندنا فان النظام الحاكم لايمكنه العيش في ظل هكذا طريقة، لذا لانجد في الشارع الدائرة الرسمية والنظام الحاكم، اما الشعب فهو مغيب، ورب قائل بان هذه مسؤولية النظام، لكن الحقيقة هي انها مسؤولية الشعب الذي تعرض للتغييب، فهو لا يمتلك آلية للتحرك في البلد ولايفتقد آلية المساهمة في علمية صنع القرار لا ايجابيا ولا سلبيا، والسبب هو بعده عن السياسة منذ فترة طويلة.
الصالح يُصلح الحكومة
عندما نروم القيام بمشاريع ضخمة في العراق لا يجوز لنا ان نتحدث عن لون البيوت و لون الابواب ولوحات السيارات ونترك القوانين المصيرية. على الخطباء والعلماء والكتاب واهل البصائر ان يفكروا في مصير هذا البلد، فنحن لم نحصل على هذه الحرية ولم نحصل على هذا النظام والدستور بالمجان، انما بأنهر من الدماء والدموع وتلال من الاشلاء والاجسام والمقابر الجماعية، كلها وفرت لنا اليوم هذه المكاسب وهذا طبعاً بفضل الله تعالى، لذا ليس من الهيّن تضييعها بين عشية وضحاها. وليس من الصحيح ايضاً تقاذف المسؤولية بين هذا وذاك، كما لا تحل الامور بتظاهرة او اعتصام، لان الجرح أعمق من هذا بكثير. نحن بحاجة لرؤية واضحة للعلاج وقد يستمر الامر الى عقود من الزمان حتى نصلح الامور بشكل جذري، لكن لابد ان نعرف ماذا نصنع.
حسب ما نستوحيه من الآيات القرآنية، فان على الناس في الساحة ان يكونوا داعمين لانظمتهم السياسية ان صلحت، ومصلحين لها ان فسدت، هذا هو الحل... فالمجتمع عليه ان يكون دائماً مستعداً لان يدفع ثمن الحرية والكرامة والعزة والتقدم، فالانتعاش الاقتصادي لا يأتي صدفة او عبثاً، إنما بالمثابرة والجدّ والعمل المتواصل، وكما ان قرص الخبز لا يُعطى مجاناً فان الحرية التي تُعد (اوكسجين) الكرامة و (اكسير الحياة) لن تعطى بالمجان ايضاً، لابد ان تدفع الثمن، لكن ما هو الثمن؟ انه الحضور في الساحة. وأعيد و أؤكد لا خوفا ولا طمعاً وانما اقول ما يرضي الله وانشاء يرضى الله عنّا، بان هذا لا يعني ان نسيّر التظاهرات ضد هذا أو ذاك، لان مجرد التظاهر لايجد نفعاً، في الوقت نفسه لا يعني السكوت القبول بالواقع السيئ، إنما الحالة الوسطى اننا عندما نرى حاكما صالحا نؤيده واذا رأينا منه خطأ نسدده. نقول له أخطأت... ولعدة مرات. نحن ايام النظام السابق كنا نقول (النظام لابد ان يرحل). مرة بعث لي الطاغية المقبور رسالة باستعداه للتفاوض، قلت له: انت تعتقل المعارضة لديك في سجن (ابو غريب)، اذهب الى هناك اطلق سراحهم ثم تفاوض معهم.
هذا ما كان يتعلق بذلك النظام الديكتاتوري البائد، أما النظام القائم في العراق فهو يبقى باذن الله ولابد من تسديده والانتصار له عند الحاجة. لكن السؤال؛ من هم افراد هذا الشعب القادر على الاصلاح والتغيير؟ وما هي القوة الدافعة التي تجعل هذا الانسان ينزل للساحة ويدافع عن الكرامة ويدافع عن الحرية والعزة والتقدم والاصلاح؟
حتى نقول الحقيقة والصراحة فان أول شرط هو (الايمان)، وقد جسدت (سورة العنكبوت) في مستهل آياتها الكريمة هذه الحقيقة، يقول تعالى: "ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، هذه السورة مخصصة لبيان مواصفات الانسان المجاهد والمناضل الذي يمتلك التأثير في الساحة، والانسان يجب أن لا ينسى انه مسؤول امام الله تعالى، ذلك انه تقبل الامانة الالهية، وهي امانة المسؤولية وامانة العقل وامانة الكرامة وامانة الحرية، علماً ان هذا الانسان قبل الامانة بملء ارادته، "انا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فابين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولا"، فكل انسان يحمل هذه الامانة وهو في عالم الذر، ثم انه مسؤول غداً عن هذه الامانة، وقد امر الله تعالى ان تؤدى الامانات الى اهلها.
الى جانب الشعور بالمسؤولية، على الانسان ان يدرك انه دائماً يعيش حالة الاختبار والامتحان الذي يعبر عنه القرآن الكريم بـ (الفتنة)، وقد اوضحنا معنى هذه الكلمة لغوياً وانها تعني التمحيص والبلورة والصقل، ثم ان الخطاب الالهي يشير علينا بان نراجع الأمم الاخرى لنرى انها ايضاً خاضت الفتن والاختبارات، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ"، لماذا يشير القرآن الكريم الى الكذب؟ لان كل الناس تقول نحن على حق، هذا الادعاء تتضح صحته من عدمه من خلال الامتحان حيث (يكرم المرء او يهان). اذن؛ لا ينفعنا التباكي على الاطلال والماضي، إنما البكاء من قلب محترق.
الجهاد لمصلحة الانسان
من الشروط الاخرى لمن يريد تحدي الظروف والخروج من الفتن والاختبارات بنجاح، الايمان باليوم الآخر، وكما يقول البعض (يخاف الله). هذا الايمان والمخافة هي التي تجعل الانسان غير ملتصق بهذه الدنيا ومغرياتها من مناصب واموال وامتيازات وقصور، انما يفكر دائماً بالبيت الدائمي وهو القبر والموت، فالدنيا ممر والاخرة مقر، فطوبى لمن اخذ من ممره الى مقره.
يروى ان شاباً اراد الانتقاص من عجوز طاعن في السن لقاه في الطريق وكان محدودب الظهر، فسأله باستهزاء: من اين اشتريت هذا القوس على ظهرك...؟! فاجابه العجوز: لاتعجل، سيعطونك اياه قريباً وبالمجان! تقول الآيات الكريمة في (سورة العنكبوت): "مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ". ان الله تعالى ليس بحاجة لجهاد هذا او ذاك، انما الجهاد يعود بالنفع على الانسان نفسه، وفي العراق المؤمنون ليسوا قلّة، ونراهم في الزيارات المليونية في كربلاء المقدسة لاسيما في زيارة الاربعين، كما نراهم في صلوات الجماعة والزيارات عند مراقد الأئمة الهداة الاطهار، لكن المشكلة عدم وجود القنوات التي تستوعب كل هذه الاعداد الهائلة من الزائرين للدخول في الاجواء السياسية، فقد حطم النظام الديكتاتوري البائد هذه القنوات والنظام الجديد منشغل بمهام ومسؤوليات البناء والمشاكل العديدة. إذن؛ فالمسؤولية تقع اليوم على العلماء والخطباء واصحاب الفكر والقلم بان يوجهوا المؤمنين نحو الساحة السياسية، لا من اجل مكاسب ومناصب ومصالح شخصية، انما لتحقيق مرضاة الله تعالى، هنالك فرصة للانضمام الى التنظيمات الاسلامية الموجودة بهدف الاصلاح، وان الله تعالى لا يعذب شعباً حاضراً وعاملاً في الساحة من اجل الاصلاح. فما دام المصلحون موجودين في البلد، فان الله لن ينزل العذاب، لا ان يقول كل شخص: (لا عليّ إنما هي مسؤولية الآخرين)، فهذا الكلام يحسب على الانسان غداً يوم القيامة، والكلام بلا عمل يحاسب عليه الله تعالى، اذا رأيت صخرة في الطريق او عثرة في طريق الناس، بمكانك ازالتها بدلاً من كيل السباب والشتيمة على الناس والحكومة كما تسب هذه العثرة والصخرة! ليقم كل انسان بدوره حتى يعمّ الاصلاح جميع اركان المجتمع.
قنوات لاستيعاب الزخم الجماهيري
يجب على المؤمنين في العراق ان يكونوا في الساحة ضمن قنوات ويقوموا بدورهم في الاصلاح وفي العمل الصالح، كما عليهم ان يكونوا ايجابيين ويتطلعوا الى الاصلاح وآفاق المستقبل والتخلّي عن النفس السلبي، طبعاً علمية الاصلاح ليست ايجابية دائماً، انما جزء منها ايجابي وجزء آخر سلبي، بمعنى جزء منها تأييد والاخر تسديد. واذا رأى الحاكم المؤمن شعبه حاضراً في الساحة ويتمتع باليقظة والنشاط والمتابعة فانه قطعاً سيجري التغييرات والتعديلات ويتحقق الاصلاح، واذا لم يكن مؤمناً – لا سامح الله- على الاقل سيكون امام حقيقة الجهاد "ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه".
وكما اسلفنا فان ديمقراطيتنا ناقصة وغير ناضجة، فاننا بحاجة الى جماعات منظمة تراقب الاداء السياسي في البلاد، وتقوم بدور التأييد وفي مكان اخر تقوم بدور التسديد وتقوم بعملية الاصلاح بصورة مستمرة، وهذا ممكن من خلال تشكيل منظمات المجتمع المدني وايضاً من خلال المساجد والهيئات الحسينية والحسينيات، كلها يجب ان تتعاون لايجاد مخرج للطريق المسدود امام الديمقراطية في العراق.
ولابد من التحذير من وجو مؤآمرات مبيتة على العراق من الخارج، فلابد من اليقظة والحذر من العمليات الاجرامية ومن الافراد المنحرفين والشاذين عن الطريق القويم والخارجين عن القانون، وهؤلاء يمكن ان يشكلوا تحديا اخرا لعملية الاصلاح .
|
|