الفقيه محجة هداية
|
*الشيخ فيصل العوامي
إن اكتشاف دور الفقيه في تكريس الحالة الدينية والمحافظة عليها في وسط المجتمعات الإسلامية عموماً والشيعية على وجه الخصوص، يتطلب نظرة من جانب آخر وذلك لتجاوز حالة الإدعاء والتحرير النرجسي .
ذلك الجانب هو النظر في ذات الحالة الدينية وفي مسيرتها السجالية، وذلك من خلال تشخيص نقاط الضغط التي تسهم في زعزعة تلك الحالة والتي من خلالها يمكن اكتشاف دور الفقيه، لأن دوره الحقيقي يتجلى في الاستجابة الفعلية للضغوط المؤرقة للحالة الدينية، ومدى قدرته على الحد من خطورتها، كما يمكن اكتشاف دور أي إنسان في المجتمع بنفس الطريقة أيضاً .
فما هي أعمق وأبرز نقاط الضغط التي تؤثر في زعزعة الحالة الدينية عند الإنسان والمجتمع، هناك عدة مؤثرات اجتماعية وعلمية بعضها داخلي والآخر خارجي :
أولاً: المؤثرات الداخلية :وتتفرع الى سببين:
1- السبب العلمي و توقف التنظير الديني.. ذلك إن العلم متحرك وليس أمراً جامداً لكي يتم الاكتفاء بالإنتاج القديم، إن جمود العلم يزيده غموضاً ويسهّل عملية اختراقه واختراق المجتمع من خلاله، والوسيلة الوحيدة للإبقاء على حيوية العلم العمل على تطويره بالتنظير المستمر الذي يأخذ باعتباره حركة المجتمع وطبيعة الظروف العلمية لتلك الحركة حتى يكون في مقدوره تقديم حلول معاصرة ورؤى متطورة.
لقد أسهمت عملية التخلف العلمي في اختراق المجتمع المتدين الذي لم يجد ما يحاكي همومه العملية في ثقافته، فاضطر إلى الانتقاء والالتقاط من هنا وهناك مما سبّب في نهاية المطاف زعزعة للقناعات الدينية عند الإنسان والمجتمع.
2- السبب الاجتماعي و تمييع القيم الدينية.. فالقيمة الدينية غالباً ما تتعاكس وتتناقض مع المصالح المؤقتة للإنسان، طبعاً هي ليس من شأنها ذلك لكن الإنسان ينظر إليها على أنها موازية لمصالحه الشخصية، فإنه يسعى بين الحين والآخر إلى التحايل عليها.
وإنما أقول التحايل لأن المؤمن ليس من شأنه الرفض المطلق والصريح للقيمة الدينية لأن ذلك يُعد خروجاً عن ربقة الدين، وإنما قد يكون من شأنه الالتفاف على القيمة لتجنيب نفسه صعوبتها باستخدام حيل شرعية أو بعض الثغرات العقلية مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تمييع القيمة الدينية ورفع حالة الإلزام فيها .
وحتى يحافظ على سلامة القيمة من التمييع فإنها تحتاج دائماً إلى حارس يقظ قادر على التنبه لتلك التحايلات، ومؤكّد دائماً وأبداً على القيمة وأصالتها .
ثانياً: المؤثرات الخارجية، وأيضاً تتفرع الى سببين:
1- السبب العلمي و إثارة الشكوك العقيدية، على اعتبار أن الأفكار الدينية والقيم الشرعية تمذهبت مع مرور الزمن، ولأنّ بعض المتمذهبين يعتريهم شيء من العصبية لمذهبياتهم فإنهم غالباً ما ينظرون إلى القيم والممارسات المتبناة من قبل غيرهم نظرة عدائية، فيعمدون على أثر ذلك إلى محاربتها وتوجيه سهام النقد إليها في أدق قضاياها خاصة الأمور الاختصاصية التي لا يملك المجتمع قبالها قدرة على الرد والمواجهة لعدم اختصاصه .
ومثل هذه التشكيكات لو تترك وشأنها فإنها لا محالة تؤثر بشكل سلبي على العقيدة، ولهذا فإنها دائماً تحتاج إلى مواجهة علمية عميقة ومستمرة أيضاً لأن التشكيكات لا تختص بمرحلة زمنية محددة .
2- السبب الاجتماعي و الدفع السياسي باتجاه فكر خاص، وهذا بطبيعته يستلزم مناوئة من جهة أخرى للأفكار المغايرة، فكل نظام سياسي عادة ما يكون متبنياً لفكر معين، قد يكون تبنيه عقيدياً وقد يكون مصلحياً لاعتبار ذلك الفكر يخدم مشروعه السياسي، وذلك يدفعه إلى الترويج لفكرة المتبني، وقد يدفعه أيضاً إلى محاربة فكر الآخرين والتضييق عليه، كما حدث في العصر العباسي الأول في الجدال المشهور بين المعتزلة والأشاعرة .
ولا يخفى ما لهذا العامل من أثر على عقيدة المجتمع وتدينه، ولهذا فإنّ المحافظة على سلامة العقيدة وحُسن الحالة الدينية في المجتمع يحتاج إلى رجال متصدين ومبدئيين يقللون من خطورة هذا الأمر .
هذه بعض المؤثرات التي تسهم بشكل جدّي في زعزعة الحالة الدينية في المجتمعات، وفي زحمة هذه المؤثرات تألق دور الفقيه قديماً وحديثاً، فهو رجل الدين الذي تصدّى لإحياء العلم وتطويره، وهو الذي ذبّ بقلمه ولسانه عن حريم العقيدة وأجاب عن التشكيكات المتكاثرة، وهو كذلك من تصدى لقيادة المجتمع أمام الحملات السياسية الطائفية، وكل ذلك ليس غريباً على المتتبع لتاريخ الفقه والفقهاء .
|
|